newsfeed

اللاماسو

كلكامش نبيل
مواليد بغداد 1988
خريج كلية طب القصر العيني - جامعة القاهرة عام 2013
مدير صفحة Mesopotamia
وظهرت له مقال على الحوار المتمدّن، ومقالات
عن التعليم العالي في الفنار للإعلام وبعض التقارير الإخبارية في صحيفة
USA today وصحف أميركية وعراقية أخرى. مقيم في إسطنبول

أثر الحضارة النهرينيّة على العالم – اللاماسو مثالا



منذ عصور طفولة الإنسان وأجدادنا يحاولون إبتكار كائنات إسطوريّة هجينة لتكون رمزا يفسّر مخاوفهم من الأمراض والجدب والموت كالعفاريت والجن أو كائنات تحيطهم بالعناية والحماية وتردّ عنهم الشر كالعفاريت الطيّبة والملائكة الحارسة.
وقد أبدع خيال الإنسان النهريني الكثير من هذه الكائنات مثل تنّين الموشخشّشو البابلي – رمز الإله مردوخ – والرجال العقارب الوارد ذكرهم في ملحمة كلكامش والجن المجنّح برؤوس نسور في نمرود والأبكالوّ الحكماء وعفاريت البازوزو وغيرها الكثير. إلاّ إنّ اللاماسو أو الثور المجنّح يعتبر من أكثر تلك الكائنات شهرة وإنتشارا في ثقافات الشرق الأدنى القديم الأخرى أيضا.
يمثّل اللاماسو كائنا إسطوريّا يجمع بين رأس الإنسان وجسد الثور أو الأسد وجناحي نسر، وزوّد الرأس البشري بلحية مهيبة مصفّفة بعناية على الطريقة الآشورية وإعتمر تاجا بقرون في بعض الأحيان – رمز الإلوهيّة في بلاد ما بين النهرين القديمة – وتعلوها ريشات وزينة في نماذج أخرى من دور شروكين – خرسباد – من القرن السابع ق.م. وفي جميع الحالات يكون لللاماسو طرف خامس يفسّره البعض على إنّه يرمز للسرعة، ولكنّني أرى فيه وسيلة للتعبير عن الحركة ولمسة فنيّة لمن ينظر إلى التمثال من منظور جانبي. حرست الثيران أو الأسود المجنّحة بوّابات المدن كما في الزوج الحارس لبوابة نركال الشمالية – من عصر الملك سنحاريب – فيما حرست أزواج أخرى بوّابات القصور الملكيّة كقصر الملك آشورناصربال الثاني – القرن التاسع ق.م. – في كلخو القديمة – النمرود حاليا، والأزواج المميّزة والتي ينظر بعضها بإتجاه جانبي يقابل الناظر والتي أتتنا من قصر الملك سرجون الثاني في دور شروكين – خرسباد من القرن الثامن ق.م. كما عثر آثاريون عراقيّون في تسعينيّات القرن الماضي على أزواج أخرى مميّزة من هذا الكائن الحامي في قصر الملك أسرحدون إبن الملك سنحاريب في نينوى.
قد تكون أكبر تماثيل الثيران المجنّحة أتتنا من بلاد آشور في عصور متأخّرة نسبيا من عُمُر حضارة ما بين النهرين، إلاّ أنّها في الواقع موضوع نهريني أصيل يمتد للعصر السومري في قدمه. فقد صوّر السومريّون أختاما إسطوانيّة تمثّل الرجال الثيران – نصفهم الأعلى رجل والنصف الأسفل ثور – وهم يتصارعون مع أبطال عراة – ربّما كلكامش، بينما أتتنا تماثيل ثيران برؤوس بشريّة ولكن بلا أجنحة وهي رابضة وجالسة جانبا من العصر السومري الحديث – القرن 22-21 ق.م. – وكأنّها جذور لكائن اللاماسو الذي إكتمل بشكله المعروف حاليا وعملت منه تماثيل ضخمة في العصر الآشوري الحديث.
كانت وظيفة اللاماسو حماية بوّابات المدن والقصور وإبعاد الأرواح الشرّيرة ولربّما كان يمثّل عنصرا لإضفاء الهيبة والرهبة على المكان. أثّر اللاماسو في خيال الشعوب المجاورة ولهذا إستنسخ الفرس الأخمينيّون نسخا عنه – وإن كانت ملامحها أضخم – فزيّنوا بها مدينة برسيبوليس في إيران الحاليّة، كما قد يكون اللاماسو العامل الذي يقف وراء إضافة الأجنحة لكائن أبو الهول "السفنكس" اليوناني، بعد أن أخذ الإغريق السفنكس – جسم أسد رابض ورأس رجل – من الحضارة المصريّة القديمة، كما إستعار اليونانيون فكرة الرجال الثيران من حضارة ما بين النهرين على ما يبدو فكوّنوا المينوتور اليوناني الذي صارعه البطل هرقل، وإستمرّ تأثير فكرة هذه الكائنات الأربع – وإن إختلفت التفسيرات – لتصل إلى المسيحيّة فتكون رمز الإنجيليّين الأربع: متّى ورمزه الإنسان، مرقس ورمزه الأسد، لوقا ورمزه الثور، ويوحنّا ورمزه النسر، ولم ينعزل الإسلام عن التأثّر بالحضارة النهرينيّة فكان حصان البراق في قصّة الإسراء والمعراج النسخة الإسلاميّة عن اللاماسو الآشوري.
في آذار الماضي شاهدنا فيديو مؤلم يظهر تدمير تماثيل لاماسو أصليّة عمرها حوالي 2900 عام، كانت تزيّن بوّابة الإله نركال في نينوى وزوجين آخرين في متحف الموصل الحضاري وأنباء عن تدمير نسخ أصليّة أخرى مميّزة في مدينة كلخو – النمرود. لا يمكن أن نقول بأنّ الخسارة قليلة أبدا، ولكن عزاءنا أنّنا نمتلك نسخ أخرى أصليّة في متحف بغداد ومتاحف برلين ولندن واللوفر والمعهد الشرقي في شيكاغو وحتّى نسخ غير مكتملة في متحف إسطنبول ومتحف الإرمتاج في سان بيترسبيرغ في روسيا.
وهكذا يتّضح لنا مدى تأثّر الأساطير العالميّة بالتراث النهريني، وصعوبة محو هذا التراث العريق، فهاهو اللاماسو وحده يخاطب مخيّلة الفرس واليونانيّين ويفرض وجوده في أعمالهم الفنيّة والأدبيّة، بل ويتعدّى ذلك ليحضر في تراث الأديان الإبراهيميّة أيضا وإن بمسميّات وأشكال أخرى.

هناك تعليق واحد: