newsfeed

أمراة في الظل - رحيل السنونو

أصيل خالد العزي
بكلوريوس هندسة اتصالات
كاتبة وشاعرة

رحيل السنـونـو

الجزء الاول


أصيل خالد العزي
بكلوريوس هندسة اتصالات
كاتبة وشاعرة 


ليلى الغجرية .. او هذا ما كان يلقبها به سكان الحي ، قوامها الممشوق ، مشيتها المتثاقلة ، احمر الشفاه القرمزي وعطر الكاردينيا الذي تضعه كلها تجعل منها امرأة من زمن الفلكلور ، كانت تجلس كل صباح على عتبة دارها تنتظر عابري السبيل لتغريهم بقراءة طالع المستقبل ، او تنتظر زبائنها المعتادين من الجيران ، تفرش شالها الحريري على ارضية المرمر وتقول بصوت كله دهشة " انوي ، خل اخذلك خيرة ...اشوف القدر وتدابيره"
جميع من يرتاد منزلها ويطلب قراءة الكف اومعرفة الطالع يعلم مسبقاً انها ليست مبروكة ، هي فقط بائعة كلام ، لكن رغم هذا يصدقها الجميع . بالطبع فهي تُسمعهم ما يريدون ، تزرع الامل في نفوسهم ، وتحذرهم مما ممكن ان يواجههم .

تقطن ليلى الحي منذ زمن وﻻ احد يعرف عنها اي شيء سوى اسمها (ليلى) ، تسكن وحدها ، ﻻ يزورها احد ، لذا كثيرةٌ هي اﻻقاويل حول قصتها الغامضة ، البعض يقول انها تاهت وفقدت ذاكرتها وساعدها الخيرين من الناس ان تسكن الحي ، والبعض الآخر مقتنع بأنها هربت من اهلها ﻻسباب مجهولة !
ليس مهماً البتة .. فبعد مرور كل هذه السنين اصبحت الان "منهم وبيهم" كما قال لوالدي ابو صادق جارنا البقال ذات مرة ، لذا لم يعد احد يكترث من اين اتت او ماهي قصتها ..

ليلى احدى ذكريات الطفولة التي لم تفارقني اطلالتها .. كانت شابة يافعة انذاك تتمايل غنجاً وترسم في كل زقاق تمر به اثناء ذهابها الى السوق ابتسامة المّارة .. طيبتها كانت تشع مثل وجهها البلوري الناصع البياض ..
ليلى اللطيفة كانت كثيرا ما تدس بيدي الحلوى عندما تقابلني العب " الدعابل " في زاوية شارعنا ..
غادرنا الحي وكان عمري انذاك عشر سنوات .. لكن ذكريات شارعنا ووجه ليلى لم يغادر مخيلتي قط .. ربما لان الانسان لا ينسى من يمنحه الُحُب الخالص والطيبة ..

كثيرا ما شدني هدوئها وصمتها .. وكثيرا ما تساءلت ما هو السر الذي تخبأه ..
اكثر من عشرين سنة مرت كلمح البصر ، لم افكر يوما بزيارة منطقتنا القديمة وكل هذه التفاصيل الصغيرة ظلت مجرد ذكريات انطمرت في سراديب الذاكرة بمرور الوقت .. لكن وفاة والدي جعلني اتحمل مسؤولية متابعة شؤون ممتلكاتنا ومن بينها دارنا القديمة في الحي الذي تقطنه ليلى ..
في صباح احد الايام انطلقت الى هناك ، لم يكن صعبا عليّ معرفة الطريق رغم انه في محافظة اخرى، لكن يبدو ان ذاكرة الطفولة لا تنسى شيئا ابدا .
كان الشارع تقريبا كما هو لم يتغير فيه شيء سوى بعض الدور القديمة التي يبدو انه تم هدمها وبناء اخرى او ربما ترميمها ، اتجهت مباشرة الى منزلنا القديم قابلت المستأجر واكملت التفاصيل . هممت بركوب سيارتي والمغادرة ، لكن هاجس ما جعلني افكر بالسؤال عن ليلى واحوالها .. اتجهت للبقالية عليّ اجد العم ابو صادق ، وجدت شابا هناك بادرت بسؤاله:
-        السلام عليكم .. اين بامكاني ايجاد العم ابو صادق ..؟

·       وعليكم السلام .. والدي توفي منذ سبع سنوات وانا ابنه صادق ..
ضحكت ضحكة طويلة ثم قلت :
-        صادق ايها العزيز لم اعرفك .. انا سلام .. والدي الدكتور محمد كنا نسكن الحي قبل عشرين سنة ..

·       من ؟ !.. سلام .. اهلا يا رجل .. مدة طويلة لم اعرف عنك شيئا .. تعال حدثني بما جرى لك وما الذي اعادك الى مستنقع شارعنا ..
جلست لعده ساعات وانا اتجاذب اطراف الحديث مع صادق ..
هممت بالمغادرة وكنت قد نسيت كليا سبب ذهابي اصلا لبقالية العم ابو صادق .. كنت اودع صادق فالتفتت مرة اخرى لاسأله على استعجال ..
-        عزيزي صادق .. ماهي اخبار ليلى الغجرية..؟؟ هل تذكرها؟

·       ليلى .. غريب انك تتذكرها .. لازالت تسكن نفس الدار في اخر شارعنا .. لكنها الان مريضة جدا امي تزورها باستمرار لتطمئن على حالتها فهذه ايامها الاخيرة فهي تعاني من مرض السرطان وقد انتشر واصبح في المرحلة الرابعة ..
شكرت صادق وانطلقت لاعود ادراجي .. لكن ظلت ليلى الجميلة في مخيلتي وانا اتأرجح بتفكيري بين زيارتها او لا واخيرا قررت الاطمئنان على حالها .. هذا ان تذكرتني ..

وصلت بابها اكثر ما شدني تلك الزخارف المموجة على الباب وذلك العمل المتقن ، من شدة اعجابي بهذا الفن الدقيق اخرجت هاتفي النقال واخذت له صورة سريعة لاحتفظ  به كذكرى.
فتحتْ لي الباب ، رحبت بي بطريقة ارستقراطية تدل على ذوق رفيع ، امر لم اتوقعه اطلاقاً من " فتاحة فال " .. كانت كما هي لم تتغير بهيأتها التي اذكرها عليها سوى ان تجاعيد الزمن قد حفرت اثارها على وجهها ويبدو ان المرض قد نال من صحتها الشيء الكثير.
بادرتْ مباشرة " مرحبا يا ولدي انا اليوم تعبة بعد جلسة علاج لا استطيع قراءة الطالع لك بأمكانك المجيء في يوم اخر "
لا اعرف ما الذي جعلني اقول لها " انا قادم من محافظة اخرى .. هل من المعقول ان تردي قاصدك؟"
فما كان منها الا ان رحبت بي  .. وادخلتني دارها ...


يتبع

هناك تعليقان (2):

  1. احسنتم نحن ننتظر تكملة الحكاية

    ردحذف
  2. رحمك الله اصيل الغالية وأدخلك فسيح جناته انا فخورة كوني خالتك اسأل الله ان يصبرنا على فراقك

    ردحذف