newsfeed

على خطى سميراميس.

كلكامش نبيل

مواليد بغداد 1988،
 خريج كلية طب القصر العيني - جامعة القاهرة عام 2013، مدير صفحة
Mesopotamia
، وظهرت له مقال على الحوار المتمدّن، ومقالات عن التعليم العالي في الفنار للإعلام وبعض التقارير الإخبارية في صحيفة USA today وصحف أميركية وعراقية أخرى. مقيم في إسطنبول


على خطى سميراميس

قد لا أبالغ إن قلت بأنّ العالم قد بدأ أنثى، هذا ما تخبرنا به كلّ التماثيل التي تجسّد "الإلهة الأم" والتي عثر عليها في مواقع متعدّدة في العراق والعالم تعود للعصر الحجري الحديث، كموقع تل حسّونة قرب سامرّاء (الألف الخامس ق.م.)، وتل حلف في شمال سوريا، وتل العُبيد (الألف الرابع ق.م.) قرب الناصريّة في جنوب العراق. كلّ تلك التماثيل ومثيلاتها في كهوف أوروبا من عصور ما قبل التاريخ لأدلّة تنطق على عظمة مكانة المرأة في نظر تلك الشعوب البدائيّة، فقد شكّلت وبولادتها للنسل الجديد، ووهبها الحياة للمواليد الجدد، معجزة لم يتمكّنوا من تفسيرها، وقد تعاظمت تلك الأهميّة عندما بدأت الشعوب بإكتشاف الزراعة (على يد إمرأة كما ترجّح معظم النظريّات) فأصبحت الإلهة الأم الأبرز والأهم في حياة تلك الشعوب القديمة، فعبّروا من خلال تماثيل تركّز على الأعضاء الأنثويّة عن الخصب والنماء والخير. لهذا يمكن أن نقول بأنّه وبإستثناء مجتمعات الجمع والإلتقاط فإنّ المرأة كانت هي الإلهة الأولى في تطوّر فكر الإنسان الديني.
وتدلّ مقبرة الأميرة السومريّة "بو-آبي" في أور (2600-2400 ق.م.) وغناها وما ضمّته من مجوهرات ذهبيّة وفضيّة وأحجار كريمة، وما دفن في قبرها من آلات موسيقيّة وعربات تجرّها ثيران وخدم وجنود وعازفي قيثارات على مكانة تلك الأميرة في مجتمعها. لقد دُهش السير ليونارد وولي لما رآه من كنوز أبان تنقيباته في مدينة أور في عشرينيّات القرن الماضي، عندما قاد بعثة مشتركة من المتحف البريطاني ومتحف جامعة بنسلفانيا، فقد دلّت كل اللقى على عظمة تلك الحضارة وتطوّرها، لتكشف عن مجتمع متطّوّر يحبّ الفن ويقدّر المرأة والموسيقى والجمال حتّى بعد الموت، فقد ضمّت تلك القبور آلات موسيقيّة وكؤوس شراب من الذهب، وأخرى من الفضّة، وكاسات من حجر اللازورد – الذي جيء به من أفغانستان أو إيران – وعثر على حلي كثيرة من الذهب والأحجار الكريمة والصدف، بل وحتّى ملاقط للشعر ودبابيس شعر ذهبيّة، وعلب تضمّ مستحضرات تجميل.
يبدو أنّ المرأة في العصر السومري قد حظيت بمكانة متميّزة جدّا، فقد كُنّ أميرات وملكات وكاهنات للمعابد، وعازفات موسيقى، وصاحبات حانات. فمن مملكة ماري – تل الحريري حاليا على الحدود العراقيّة – السوريّة – أتانا تمثال من الألف الثاني ق.م. لشخص يجلس القرفصاء وله شعر طويل أشقر على ما يبدو، وهذا التمثال يجسّد أورنينا مغنّية معبد الإلهة عشتار على الأرجح أو لرجل مخصي وفق فرضيّات أخرى أقل شهرة. ولم يختلف الأمر كثيرا في عصور لاحقة، ففي منحوتات آشوريّة من قصر الملك آشوربانيبال (القرن السابع ق.م.) تظهر عازفات قيثارات في مأدبة يقيمها الملك إحتفاءا بإنتصاره على عيلام، وعلى علبة من العاج من كلخو – نمرود – نجد عازفات بشعور مجعّدة وملابس قصيرة، وأخريات بملابس آشوريّة تقليديّة وهنّ يضربن على الدفوف، ويعزفن بالمزامير المزدوجة – التي إنتقلت إلى اليونان فيما بعد – وأخريات يعزفن على القيثار في جوقة موسيقيّة منظّمة بشكل أوركسترالي جميل. كما تذكر بعض المصادر بأنّ النساء كنّ يحمّسن الجنود في المعارك الآشوريّة فيما يشبه الفرق الموسيقيّة العسكريّة.
وللمرأة دور كبير في أقدم ملحمة عرفها العالم، ملحمة كلكامش (أتتنا أولى نصوصها من الألف الثالث ق.م.)، والتي لا تعبّر كما أرى عن بحث الإنسان عن الخلود فحسب – ذلك الحلم الأزلي – بل تحمل تعبيرا أعمق عن أزليّة الصراع بين الحضارة والهمجيّة، متمثّلا بصراع كلكامش وأنكيدو قبل أن يصبحا صديقين، وهنا لا يمكن أن ننسى دور شمخات (بغي المعبد المقدّسة) ودورها في تمدين أنكيدو وإعادته لحالته الإنسانيّة بعد أن عاش في الغابات مع الحيوانات، وأشاع الذعر في نفوس الصيّادين، هنا كانت المرأة والخمر والخبز هي وسائل أنسنة أنكيدو من جديد، وليست شمخات المرأة الوحيدة في الملحمة، فننسون والدة الملك كلكامش كانت الشخص الذي ينصح كلكامش ويفسّر له أحلامه – تماما كما هو حال والدة الإسكندر الكبير – هذا بالإضافة لدور الإلهة عشتار الأكبر في تحريك الأحداث وخلق المغامرات بشكل يوضّح قوّة المرأة وتأثيرها وجرأتها ومكانتها في تلك العصور.
لم تهبط مكانة المرأة في العصر الأكدي السامي، بل على العكس من ذلك، ففي هذا العصر تمّ تعيّين أنخيدوانا  (2285-2250 ق.م.، إبنة الملك سرجون الأكدي) كأوّل كاهنة عظمى لمعبد إله القمر نانا في مدينة أور، وهو منصب يمنح حامله نفوذا سياسيّا كبيرا، ومنح في عديد من الحالات لفتيات من الأسر المالكة. لكنّ شهرة أنخيدوانا – عمّة الملك نارام سين – لم تأتِ من هذا المنصب فحسب، بل إنّ إسمها هو أحد أقدم أسماء النساء المعروفات عبر التاريخ، وإسم أوّل شاعرة في التاريخ معروفة بالإسم، ويمكن قراءة 42 ترتيلة مقدّسة للإلهة عشتار كتبتها الشاعرة ورؤية قرص يحمل إسمها ويظهرها تتقدّم موكبا يسير في إتّجاه زقّورة – برج مدرّج. ولم تكن قصائد أنخيدوانا هي الوحيدة التي تظهر مكانة المرأة في العراق القديم فقد جاءتنا من نيبور إحدى أقدم قصائد الحب في العالم، وكلّها تتغنّى بالحب بلغة جريئة للغاية. وتذكر المصادر بأنّ كاهنات صنف الناديتم في سبار – قرب بابل – في الألف الثاني ق.م. قد كنّ من أثرى أثرياء المجتمع.
لم تكن بو-آبي الأميرة الوحيدة في تاريخ ما بين النهرين، فقد أورد سجلّ الملوك السومريّين إسم الملكة كوبابا (حوالي 2500-2330 ق.م.) التي إعتلت عرش سلالة كيش الثالثة لمدّة تقرب من مائة عام، وفقا لثبت الملوك وهي أحد الأمثلة القليلة على تولّي النساء للسلطة بمفردهنّ في تاريخ العراق القديم. لكنّ كوبابا لم تكن المثال الوحيد، فقد ذكرت المصادر الآشوريّة أسماء زوجات الملوك مثل الملكة يابا زوجة الملك تغلاتبلاصر الثالث (744-727 ق.م.) والملكة بانيتو زوجة شلمناصر الخامس (726-722 ق.م.) والملكة أتاليا زوجة سرجون الثاني (721-705 ق.م.) وقد عثر على قبور هذه الملكات الغنيّة في مدينة كلخو القديمة – النمرود حاليا – وهي تضمّ مجوهرات ذهبيّة وكؤوس وأباريق في غاية الروعة وتاجا يظهر ملائكة مجنّحة وعناقيد عنب تظهر مدى براعة الصاغة الآشوريّين وحرفيّتهم العالية ورقي ذوقهم. ولم تكن تلك الملكات غائبات عن المشهد، فقد ظهرت زوجة الملك آشوربانيبال في "مأدبة في الجنينة" وهي تحمل كأسا من الخمر جالسة على كرسي بالقرب من الأريكة التي يضطجع عليها الملك، في إحتفال بإنتصارهم على تيومان، ملك عيلام. كما يرجّح أن يكون لحبّ الملك الآشوري سنحاريب لزوجته الآرامية نقيّة أو زاكيتو دورا في تسليم عرش آشور لإبنه منها أسرحدون بدلا عن أخوته الأكبر، ليذكّرنا ذلك بمؤامرات القصور عبر تاريخ الأمم.
لكنّ شمورامات (أو سميراميس) تبقى الملكة الأشهر في تاريخ ما بين النهرين، وهي شخصيّة إختلطت قصّتها بالكثير من الأساطير اليونانيّة والأرمنيّة التي ساهمت في ذيوع صيتها أكثر من الملكات الأخريات، لكنّ الشخصيّة الحقيقيّة لها توضّح بأنّها زوجة الملك شمشي أدد الخامس، ووالدة الملك أدد-نيراري الثالث، وقد حكمت الإمبراطوريّة الآشوريّة لمدّة خمس سنوات (811-808 ق.م.) كوصيّة على عرش إبنها وهي من أوائل النساء اللاتي حكمن بمفردهنّ إمبراطوريّة كبيرة كالإمبراطوريّة الآشوريّة. وقد ساهمت الأساطير المرتبطة بولادتها وتربيتها من قبل الحمائم، وقصّتها مع الملك الإسطوري نينوس، وبناءها للجنائن المعلّقة في بابل، في شهرتها فرسم العديد من فنّاني أوروبا لوحات تجسّدها كملكة لبابل، وأخرى تصوّر بناءها للجنائن المعلّقة، وألّف من أجلها الموسيقار الإيطالي روسّيني أوبرا "سميراميس" وتواصل ذكرها لتحمل الكثير من الفنادق والشركات حول العالم إسمها، وتصبح واحدة من أشهر ملكات العالم.
وترجّح إسطورة أخرى بأنّ قصّة حب الملك البابلي نبوخذنصّر الثاني لزوجته الميديّة أميتيس وشعورها بالحنين لبيئة وطنها الجبليّة كانت وراء إنشاءه للجنائن المعلّقة – إحدى عجائب الدنيا السبع – في القرن السادس ق.م. ولكنّ دراسات حديثة تفترض كون الجنائن قد بُنيت في نينوى في عصر الملك سنحاريب، لكنّ القصّة بحدّ ذاتها مؤشّر على مكانة المرأة وتقديرها في تاريخ العراق القديم.
لم تختلف مكانة المرأة في العراق القديم بالنسبة لعامّة الشعب، فقد إهتمّت كلّ القوانين السومريّة والبابليّة الأموريّة والآشوريّة بتنظيم الأحوال الشخصيّة وضمان حقوق المرأة، فقد كان الزواج مشترطا بعقد موثّق في المحاكم – يشبه الزواج المدني – ولا يعترف بأي علاقة بدون عقود مصدّقة، وعلى الرغم من وجود ظاهرة تعدّد الزوجات إلاّ أنّ الزوجة الأولى فقط هي من إمتلكت  المكانة الأبرز – ويذكّرنا هذا بالقصّة التوراتيّة حول الفرق بين زوجتي النبي إبراهيم سارة وهاجر – فقد كانت القوانين تميل لأن يكون للشخص زوجة واحدة فقط، بينما قام الملك أوروكاجينا بمنع ظاهرة تعدّد الأزواج للنساء في قوانينه الإصلاحيّة التي حرّرت العبيد في القرن 24 ق.م.
لكنّ الاسرة العراقيّة القديمة كانت أبويّة بطريركيّة أيضا، ولهذا فقد كان العقد يوقّع بين ولي أمر المرأة والزوج بعد تقديم المهر وغيره من هدايا وفق الإتفاق، وقد يهضم هذا حقّ المرأة في الإختيار، لكنّ هذه الشروط لم تكن مطبّقة في حال الزواج الثاني للأرملة، أو في حالة زواج الكاهنات، أو في حال زواج المرأة بسبب غياب زوجها الإضطراري – إذ كان القانون يتيح للمرأة التي غاب عنها زوجها لفترة معيّنة وبدون مصدر للإنفاق من الزواج من آخر على أن تعود للزوج الأوّل إذا ما عاد. كما كانت الأسرة البابليّة تمنح بناتها مبلغا من المال عندما يتزوجن، ومنعت القوانين التطليق الكيفي بدون أسباب، فيما منحت المرأة حقّ طلب الطلاق. أمّا فيما يخصّ الإرث، فقد كان للأرملة حقّ العيش في منزل الزوجيّة والإنفاق عليها من قبل أبناءها لكنّها لم تحصل على حصّة من تركة زوجها، فيما كانت بعض قوانين العصر الآشوري الوسيط أسوأ ولا تكفل للمرأة التي لم تنجب أطفالا من البقاء في منزل زوجها بعد وفاته. كانت التركة توزّع في الغالب بين الذكور مع حفظ حقّ البكريّة – تماما كما في الديانة اليهوديّة – لكنّ كل أسرة ملزمة بتجهيز إبنتها عند الزواج، وبذلك يكون حالها كحال الأبناء القاصرين إذا ما توفي والدهم، إذ كانوا يحصلون على هديّة زفافهم فقط، وبنفس مقدار ما تقاضاه أخوتهم الأكبر، ولا ينوبهم شيء من التركة.
صوّرت النساء في الفن النهريني بكثرة في الحضارات السومرية والأكديّة والبابلية الأموريّة والآشورية والبابليّة الكلدانية، وكنّ على العادة يظهرن بملابس أنيقة مزخرفة، وتسريحات شعر متنوّعة وتظهر مدى إهتمام النساء بمظهرهنّ وزينتهنّ، ويمكن رؤية الكثير من تلك التسريحات من خلال الرؤوس التي تعود لمملكة أشنونا (1800 ق.م.) أو خفاجي قرب ديالى (2800 ق.م.) وبسبب عدم ظهور أي غطاء للرأس – عدا التيجان ورباط الرأس من المجوهرات – فإنّ ذكر الحجاب في العصر الآشوري الوسيط وذكر منع إرتداءه إلاّ من قبل المرأة الحرّة وضرورة فضح من ترتديه من سواهنّ، يبدو غريبا جدّا، فلا يوجد أي تصوير فنّي يظهر النساء وقد غطّين شعورهنّ، ويرجح البعض أن يكون ذلك الغطاء مجرّد إيشارب للزينة تماما كما في تماثيل دورا-يوربوس في سوريا، أو أغطية رؤوس ملكات مملكة الحضر (القرن الثالث أو الثاني ق.م. – القرن الثاني الميلادي) في محافظة نينوى-  شمال العراق.
وبهذا الإستعراض الموجز لدور النساء في العراق القديم، الملكات والأميرات، والكاهنات والإلهات، والشاعرات، والمغنيّات، تظهر أهميّة أن تحتذي نساء العراق اليوم بماضي جدّاتهنّ العظيمات وأن يكنّ نموذجا للإبداع والحريّة والقوّة، ليكنّ حقّا بنات ما بين النهرين، والوريثات الحقيقيّات لعرش سميراميس وبو-آبي.







 سميراميس تتلقّى أخبار ثورة بابل
للفنّان الهولندي أدريان بيكر (1635-1684)
1669




تمثال المغنية أورنينا - مغنية معبد الإلهة عشتار - مملكة ماري (تل الحريري) المتحف الوطني - دمشق






علبة مكياج من الصدف - أور - 2600-2400 ق.م






لأميرة السومرية بو-آبي 2600-2400 ق.م. أور





تسريحات نساء عراقيات - تل أجرب - ديالى - 2650 ق.م. المتحف العراقي - بغداد







تماثيل الآلهة الأم - تلّ الصوان - الألف السادس ق.م. المتحف العراقي - بغداد



وليمة في الجنينة - قصر الملك الآشوري آشوربانيبال - نينوى - القرن السابع ق.م.


تاج ملكة آشورية من الذهب - نمرود - كلخو القديمة - القرن التاسع ق.م. - المتحف العراقي - بغداد



الشاعرة الأكدية والكاهنة العظمى لمعبد إله القمر نانا في أور أنخيدوانا

 


عقد ذهبي من المقبرة الملكيّة في أور - 2600-2400 ق.م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق