newsfeed

من ذاكرة الصالات السينمائية في الناصرية

احمد ثامر جهاد

مكان تطرزه الامنيات

من ذاكرة الصالات السينمائية في الناصرية


احمد ثامر جهاد
مدرس للتربية الفنية 
والتذوق الجمالي في معهد الفنون الجميلة


·      فلاش باك
ثمة مهمة صحفية قادتني منتصف عام 2004 الى دخول احدى صالات السينما في مدينة الناصرية لتسجيل ما آلت اليه المرافق الترفيهية والثقافية عقب انتهاء الحرب الاخيرة. اخترت في حينها صالة سينما الاندلس، احدى اعرق صالات السينما في الناصرية واكثرها شعبية.
لم يكن امام من يشهد واقع الخراب والتشويه الذي لحق بذلك المكان، الا ان يستعيد في سياق المقارنة المؤلمة شيئا من عبق ماضيه. وكما في لحظة استرجاع سينمائي خاطف اجدني ادخل مع مجموعة من اصدقائي القدامى بهو الصالة الواسعة، نتلمس طريقنا وسط الظلام نحو الكراسي الخشبية، متجنبين في الغضون تأفأفات الجمهور من ضجيج حركتنا التائهة.
في مراهقتي كنت من مرتادي هذه الصالة تحديدا، وازعم ان لي الفضل في اغواء ثلة من اصدقائي في الدراسة المتوسطة والاعدادية لتشرب سحر السينما داخل هذه الصالة تحديدا. كانوا يثقون باختياراتي للعروض التي تستحق المشاهدة، فيما كنت احرص على حفظ عناوين الافلام المعروضة او التي ستعرض قريبا، فضلا عن اسماء ابطالها ومخرجيها.
ربما اتقنت من دون ان ادري مهمة الدعاية للافلام التي احببتها، والنتيجة التي نفوز بها، غالبا ما تكون شهية مفتوحة لمشاهدة الافلام وتشرب لذائذها. كانت اياما فاتنة لا يمكن الإفلات من سحر حيويتها وبساطتها وجمالها.

·       حنين
كما في باقي المدن العراقية، يمثل راهن الصالات السينمائية في مدينة الناصرية، صورة بليغة عن حالة العطب والشيخوخة التي اصابت مفاصل مجتمعنا جراء ما شهدته البلاد من ويلات متلاحقة في العقود الاخيرة.
اهمال مميت عرّض صالات السينما إلى جملة تحولات غريبة، افقدت المكان هويته الاصلية، ليرتحل من كونه فسحة حميمة لتلقي الجمال إلى مجرد ورش نجارة أو مكاتب عقارات او قاعة العاب رياضية بأحسن الاحوال.
الصالة التي منحت جمهورها في يوم ما احساسا بالمشاركة الوجدانية، غدت اليوم ايقونة محطمة تنتظر من يضع يده على جرحها الغائر.
رغم ذلك فإن ما بقي من ذكرى السينما هو سرد مثير يصلنا بنبض الحاضر، حتى ان اي حديث عن ماضي المدينة، يقود المرء عبر مسارات مختلفة الى تنفس طقس الذهاب الى السينما والذي يعني بشكل من الاشكال استعادة حية لوجوه الاصدقاء، الاحياء منهم او الاموات.
***
الجالسون الى جوارنا في صالة العرض هم شركاء انفعالاتنا، افراحنا واحزاننا. ننصت لدقات قلوبهم ونتسمع همساتهم وكركراتهم، ونأمل أسوة بالجميع ان ينجو بطل الفيلم من مكائد الموت التي يدبرها له الأشرار، لتحظى حبيبته الفاتنة بقبلة طويلة ساخنة في خاتمة العرض.

·      ذاكرة
في جلسة حميمة، احاطني محدثي، الكاتب والمترجم احمد الباقري، بسرد شيق حافل بالمعلومات والحكايات الطريفة عن متعة الذهاب الى السينما في مدينة الناصرية قبل اكثر من نصف قرن.
لم اجد افضل من الباقري، الذي تخطى عقده السابع، بوابة ولوج آمن الى ذاكرة المدينة، لاستعادة وقائع جميلة تكشف عن صلة الناس بطقس الدخول الى السينما.
علينا ان نتعرف بداية على اسماء الصالات التي وجدت في الناصرية خلال العقود الفائتة وسنوات عملها، فضلا عن الجهات التي تملكها وهي في الغالب عوائل ميسورة كان لها الفضل في ادخال آلة السحر هذه الى قلب المدينة.
سينما الأحرار هي أقدم صالات العرض السينمائي في الناصرية. كانت مملوكة لبيت الطحان ويعود افتتاحها الى عام 1944.ومن الطريف ان مشغل آلة العرض في هذه السينما هو يوسف سلمان، المعروف بـ( فهد) ،مؤسس الحزب الشيوعي العراقي.
سينما الاندلس، عملت عام 1954 ويملكها حمودي الحاج طالب. تميزت عن باقي السينمات بطراز معماري جذاب حيث تبدو الاعمدة الشاهقة في بوابتها الرئيسة شاخصة ومهيبة مثل معبد روماني.
سينما البطحاء افتتحت عام 1956 وكانت مملوكة لبيت الحمداني، تحولت لاحقا الى صالة العاب رياضية بائسة.
هناك ايضا سينما الشعب وكانت تسمى سابقا سينما القاهرة،فضلا عن سينما الاندلس الصيفي وسينما البطحاء الصيفي.
اما سينما البهو، الصالة الحكومية الوحيدة في المدينة، فقد دشنت عام 1958 وبقيت طوال عقود لاحقة صالة عرض سينمائي ومسرحي. لكنها تعرضت خلال الحربين الأمريكيتين على العراق إلى أضرار بليغة بفعل القصف الذي طالها، وقد عمرتها الحكومة المحلية قبل سنوات. اجمالا تحولت سينما البهو من كونها صالة عرض سينمائي الى قاعة فارهة للمناسبات والفعاليات الرسمية.

·      الشغف بالسينما
الحديث عن ماضي الصالات السينمائية لابد له ان يمر عبر ذاكرة شعبية حافلة بالحوادث الطريفة التي تلمح ضمنا الى علاقة الجمهور بطقس مشاهدة الافلام.

يذكر محدثنا احمد الباقري واحدة من تلك الطرائف:"في الخمسينيات كانت صالة سينما الشعب تعرض فيلما امريكيا يسمى (حرب الغواصات) ويتضمن الفيلم مشهد اطلاق قذيفة من احدى السفن الحربية نحو سفينة المانية.وبفعل قوة صوت القذيفة وبالتزامن مع صداها المدوي في قاعة العرض فزع الجمهور من سقوط احد جدران الصالة مع مقصورة المشاهدين بشكل مفاجئ. وعلى الفور خرج الجمهور مرعوبا مما حصل، فيما هرع الناس لمساعدة جرحى الحادث.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق