newsfeed

لن اجعل نتائج الامتحانات تحدد مصيري

"لِثورةِ الفكرِ تأريخٌ يحدّثُنا      بأنَّ ألفَ مسيحٍ دونَها صُلِبا" - الجواهري
محمد عامر 
بغداد



تعاور المؤرخون وعلماء الانثروبولوجيا والاثار عمن بدأ بالكتابة, فبعضهم متعصب للسومريين وبعضهم متعصب للمصريين, متناسين ان الكتابة والفلسفة والعلم لم تنشأ على مسرح واحد, بل تعددت المسارح واختلفت الاسباب, وتقدم مسرح وادي الرافدين تارة في حيز ما, ثم يتقدم مسرح وادي النيل في حيز اخر, لايخلو هذا المسرح من تبادل في الاساسيات والاستدانة في الشكليات من مسارح اخرى محيطة.
ان اول كتابة مصورة (المرحلة الاولى في التربية والتعليم ) معروفة وجدت في (كيش) منقوشة على الحجر تعود الى عام 4000 ق.م.  ثم تطورت الكتابة, ومن دون الخوض في تاريخ الكتابة واللغة المسمارية ونشأة المدارس المعروفة ب(اي-دبا) (بيت الالواح) التي سبقت حمورابي, وتشريع القوانين التي سبقت حمورابي ايضا كتشريع (اور-كاجينا) و(لبت-عشتار) و(شنونا) بل سأتوجه الى فكرة التعليم والحكمة لدى بلاد وادي الرافدين, فبعد ان اعتقد السومريون ب(إنكي) اله الحكمة, بمرور الزمن تبدلت الاسطورة لتحكي لنا عن الاله (ايا) نقلا عن المؤرخ بيروس- كاهن معبد بابل- الذي ترجم إلى اليونانية مؤلفات البابليين وتاريخهم "رأى السكان الأوائل ممن استوطنوا المنطقة الكائنة حول الخليج العربي مخلوقاً غريباً عُرِف باسم (اونيس(OANNES وهو نفسه الاله (ايا) كان نصف إنسان ونصف سمكة, يخرج هذا المخلوق من الماء ليقضي النهار بين الناس مرشداً إياهم لكل فرع من فروع المعرفة، ثم يرجع كل ليلة للاعماق. استمر ظهور مثل هذا المخلوق أربع مرات، وكان كل مخلوق يكمل العمل الذي بدأه سابقه. ونتيجة لهذا المفهوم عن المعرفة الموحى بها صارت هذه المعرفة ليست محترمة فحسب، بل ومقدسة أيضاً".
اما المصريون القدماء لم يجعلوا للمدرسة ربا, بل ان المعرفة نفسها رب له رأس طائر ابو منجل وهو الاله (توت) واصبحت التربية والتعليم (الكتابة) مخصصة لابناء الحكام والوزراء الاغنياء,حتى انهم اعتقدوا ان رب الاخرة (اوزير) يغضب اذا وفد عليه انسان جاهل, وكما لوادي الرافدين تعاليم وتشريعات وقصص فلسفية وفكرية تربوية وتعليمية كقصة الملك ادابا وملحمة كلكامش وقصة الطوفان وغيرها, كان لوادي النيل تعاليم (بتاح حتب) و تعاليم (داووف) وغيرها.
وبعد هذا الاستعراض البسيط لكيفية ارتقاء الكاتب في الزمن القديم ليكون ذو حظوة يعتبرها الناس شرفا خاصا, يبدأ الناس بوضع قوانين تقيدهم في حرية التعليم وصولا الى مرحلة ساكنة (static), ينشأ عنها سقوط الحضارات بسبب التمسك بالقديم دون تثقيفه او تشذيب تعاليمه حسب متغيرات الزمن والعلم, فتكون المؤسسة العلمية هي المتهم الاول في جريمة قتل التربية والتعليم مكونة اداة تقهر الاجيال و تكبت ابداعاتها وتمحي شخصياتها فتصبح الفضيلة تقاس بمقدار اقبال الطالب او المجتمع على الاستماع والطاعة ممنوعا من الخروج عنها للتوجه بحرية للطريق المراد سلوكه, ولهذا كله اسباب يضعها سلامة موسى في كتابة حرية الفكر وهي: الكسل والاستنامة, التعصب للعادات, جهل الجديد, والخوف من الخطأ رغم ان الخطأ جزء اساسي في العملية التربوية.
من هن انطلق في موضوعي عن التعليم, متذكرا فديو قصير على قناة اليوتيوب  لن أجعل نتائج الأمتحانات تحدد مصيري  يذكرني بالفيلسوف برتارند رسل في كتابه (في التربية) يحارب التربية التي تهدف الى اعداد المواطن وقولبته صانعا دمى متحركه على نفس الشاكلة, وهذه حقيقة مجتمعنا للاسف, حيث يتخرج الطلاب من باحات المدارس ويخرجون من اروقة الجامعات (بشهادة) تدق اول نعش في حياتهم الابداعية والفكرية, فلا يختلف معي احد اذا قلنا ان الغالبية الساحقة هم طلاب شهادات وليس طلاب علم.
هل التعليم يحدث في المدارس اذن؟ بالتاكد لا, يقول جيرارد اودونل "ان الناس يبدأون التعليم منذ اللحظة الاولى التي يولدون بها, ويأخذون معظم هذا التعليم من البيت, ثم الشارع, ثم الؤسسات الدينية والتعليمية" ولكن قد تناسى اودونل التعليم الذاتي الذي انا بصدده, فإن من دون التعليم الذاتي, والتوجه فقط الى التعليم الكلاسيكي المعتاد يؤدي الى نتائج ملموسة وهي اهمال الطالب لسنوات الدراسة متخرجا غير مقتنعا باختصاصه لتتكون لديه بطالة نفسية, حيث تترهل شخصية الفرد التي تطبع على استبداد المجتمع والتعليم, فكما يدعوا افلاطون رغم مثاليته الغير واقعية (من وجهة نظري) ان التربية نوعان: مهنية وحرة, في الاولى يكتسب الفرد معرفة اساليب العيش, والثانية يكتسب معرفة اساليب الحياة.
وما دور الدولة في هذا كله؟
ان المؤسسات التربوية هي سبب هذا الهلاك, وأن الدولة لم تستجيب مهما كان شكلها منذ عشرات السنين, هل سنبقى ننتظر من يأتي بقبس التقنيات البيداغوجية الحديثة؟ وحتى وان كانت المؤسسة التربوية تتطور وتماشي عجلة الزمن, هل تخلو من ايديولوجية معينة؟ إن طلاب المؤسسات التربوية في كل العالم يقرأون وجهة نظر واحدة وفكر واحد حسب ما تقتضيه السياسة والمجتمع, وهنا لا يسعني الا تواضعا ان اتفق مع فلسفة باشلار في مبدأ القطيعة المعرفية "اي فهم المعرفة بعيدا عن الايديولوجية" حيث لا يجب ان نكون سلسلة تتابعية تردد نفس الايقاعات القديمة, ولا اريد ان اكون راديكاليا وانادي بالانقطاع التام من المؤسسات, ولا اكون شوفينيا واقول ان الجيلين السابقين في اعمهم الاغلب لا يمتلكون مقومات صانعي قادة المستقبل, وإنا يجب ان نكون لامنتميين حسب قول كولن ولسن, فالجيل الماضي كان معنيا بالاشكال لا المضامين وبالكم لا بالنوع الا ماندر من الافراد, فالماضي يعلمنا ويحفز قدراتنا ويرشدنا الى اشياء لانعلمها, ولكن لا يعني هذا الاندماج به والسير على خطاه, خاصة وانه لم يثبت نجاحه في شتى مجالات الحياة الا ماندر, ولتصل الفكرة الى القارئ دون رتوش, انصحه بمشاهدة فلم (Freedom Writers) او فلم (Dead Poets Society ).
الخلاصة: ان شاب زمننا يجب عليه التوجه خارج حدود المؤسسة التربوية لانها لا تعبد له الطريق بأي شكل من الاشكال للتواجد في حياة لايمكن العيش فيها الا بالتجربة والابداع والابتكار والمثابرة, كما يقول روسو في كتابه (اميل او عن التربية) داعيا الى ركن في أسلوب تربيته على أهمية تعزيز التجربة لترسيخ المعلومة واستكشاف جدوى العلم بالتطبيق العملي للتجارب والبحث عن استخداماته في واقع الحياة, وايضا عن طريق الاطلاع على تاريخ العظماء الذين انطلقوا محلقين خارج قفص المؤسسة التربوية ليحققوا احلامهم, وبهذا الطلاع سيشهد شبابنا ان طريق الخروج اخطر من طريق المؤسسات التربوية, فهذا الطريق فيه صعاب وتحديات ومواجهات اكثر مع المجتمع حتى من اقرب الناس كالعائلة والاصدقاء من المؤمنين بالتوكل على الدولة دون اتخاذ القرارات, ويجب على شبابنا معرفة ان الخروج عن المألوف لا يكون خروج لمجرد الاختلاف, وانما لكي لا يجعل التعليم قيد في رقبته يثقل كاهله بكمية المعلومات التي تتطاير حين قرائتها, لا يجعل من نتيجة الامتحانات سجنا يمنعه للوصول الى هدفه وتحقيق احلامه لان نتائج المدرسة لن تحدد مصيره.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق