أصيل خالد العزي بكلوريوس هندسة اتصالات كاتية وشاعرة |
سبعة عشر ربيعا
أصيل خالد العزي
بكلوريوس هندسة اتصالات
كاتية وشاعرة
ابتسمت وهي تتمايل خجلا .. كزهرة ربيعية غضة لم يمسسها
ندى الصباح بعد ، لم اكن اتصور ان بضع كلمات لطيفة ستجعل الحياة تدب فيها من جديد
.. نعم روح الحياة فالبعض اجساد تتحرك وارواحها حبيسة سجون ابدية ، هكذا كانت ريم
الشابة ذات السبعة عشر ربيعا ..
وهي تمسك باحدى يديها طفلها الرضيع احمد وبالثانية علب المناديل الورقية ، منظر ريم احدى المناظر المعتادة قرب سيطرة الشارع العام المقابل لمقر عملي لذا كنت امر بها مرتين يوميا، عندما قابلتها اول مرة كانت في اواخر حملها كونها اختفت بعد شهرين لعدة اسابيع حتى عادت وهي ببطن نحيفة ، لا اعلم لما شدتني هي بالذات من بين جميع من كانوا يسترزقون على اكوام السيارات المتكدسة بالقرب من السيطرة ، ربما لاني لمست فيها رغم صغر سنها قوة واباء واصرار فهي لم تكن تستجدي كالبعض كانت تعرض بضاعتها بطريقة انيقة ومهذبة تجعل كل من يراها يبتسم ويشتري منها علبة المناديل الورقية اذكر مرة اني قمت باعطائها بضعة الاف اضافية على سعر العلبة فبادرت بالرفض واعادة المبلغ وهي تردد لن اخذ سوى حقي ، لم اعلق حينها وانطلقت بسيارتي وانا ابتسم لها خجلا مما اقترفت ، فكما يبدو اني اهنت كرامتها بمعاملتها كمن يستجدي ،بقيت مواضبة على شراء علبة يوميا منها رغم عدم احتياجي لاي مناديل ورقية حتى تكدست اخيرا الكثير من العلب في بيتي مما اضطرني الى توزيعها كهدايا على الجيران والاقارب ، مرت اشهر عدة على هذا المنوال حتى اختفت ريم كلياً من الشارع ، ثارت في نفسي الكثير من التساؤلات التي لا حصر لها ، فلم اعهد ريم متكاسلة عن عملها ، توقعت ان يكون طفلها احمد مريضا وهي منشغلة برعايته لكن غيابها استمر شهرا فأخر حتى مرت خمس اشهر تقريبا ، كنت قد يأست من عودتها وانا امني النفس ان تكون قد وجدت عملا اخر اقل اجهادا من بيع المناديل الورقية الذي كان يضطرها للبقاء تحت اشعة الشمس الحارقة طيلة ساعات النهار ، لكني فوجئت بها بالقرب من احدى سيطرات ذات المنطقة لكنها كانت بهيئة مختلفة تماما قد فقدت نصف وزنها تقريبا وبشرتها البيضاء غدت صفراء تملؤها التجاعيد كما ان احمد لم يكن معها ، لم يكن امامي الا ركن سيارتي والترجل منها فورا والاتجاه مباشرة نحوها ، مددت يدي صافحتها احتضنتها كصديقة وسلمت عليها ، ظهرت اثار الدهشة على وجهها ، تلعثمت وبادرت برد السلام ، يبدو انها استغربت من طريقة معاملتي الودية ، سألتها مباشرة " اين كنتِ يا ريم ولما كل معالم التعب البادية على وجهك ؟"
وهي تمسك باحدى يديها طفلها الرضيع احمد وبالثانية علب المناديل الورقية ، منظر ريم احدى المناظر المعتادة قرب سيطرة الشارع العام المقابل لمقر عملي لذا كنت امر بها مرتين يوميا، عندما قابلتها اول مرة كانت في اواخر حملها كونها اختفت بعد شهرين لعدة اسابيع حتى عادت وهي ببطن نحيفة ، لا اعلم لما شدتني هي بالذات من بين جميع من كانوا يسترزقون على اكوام السيارات المتكدسة بالقرب من السيطرة ، ربما لاني لمست فيها رغم صغر سنها قوة واباء واصرار فهي لم تكن تستجدي كالبعض كانت تعرض بضاعتها بطريقة انيقة ومهذبة تجعل كل من يراها يبتسم ويشتري منها علبة المناديل الورقية اذكر مرة اني قمت باعطائها بضعة الاف اضافية على سعر العلبة فبادرت بالرفض واعادة المبلغ وهي تردد لن اخذ سوى حقي ، لم اعلق حينها وانطلقت بسيارتي وانا ابتسم لها خجلا مما اقترفت ، فكما يبدو اني اهنت كرامتها بمعاملتها كمن يستجدي ،بقيت مواضبة على شراء علبة يوميا منها رغم عدم احتياجي لاي مناديل ورقية حتى تكدست اخيرا الكثير من العلب في بيتي مما اضطرني الى توزيعها كهدايا على الجيران والاقارب ، مرت اشهر عدة على هذا المنوال حتى اختفت ريم كلياً من الشارع ، ثارت في نفسي الكثير من التساؤلات التي لا حصر لها ، فلم اعهد ريم متكاسلة عن عملها ، توقعت ان يكون طفلها احمد مريضا وهي منشغلة برعايته لكن غيابها استمر شهرا فأخر حتى مرت خمس اشهر تقريبا ، كنت قد يأست من عودتها وانا امني النفس ان تكون قد وجدت عملا اخر اقل اجهادا من بيع المناديل الورقية الذي كان يضطرها للبقاء تحت اشعة الشمس الحارقة طيلة ساعات النهار ، لكني فوجئت بها بالقرب من احدى سيطرات ذات المنطقة لكنها كانت بهيئة مختلفة تماما قد فقدت نصف وزنها تقريبا وبشرتها البيضاء غدت صفراء تملؤها التجاعيد كما ان احمد لم يكن معها ، لم يكن امامي الا ركن سيارتي والترجل منها فورا والاتجاه مباشرة نحوها ، مددت يدي صافحتها احتضنتها كصديقة وسلمت عليها ، ظهرت اثار الدهشة على وجهها ، تلعثمت وبادرت برد السلام ، يبدو انها استغربت من طريقة معاملتي الودية ، سألتها مباشرة " اين كنتِ يا ريم ولما كل معالم التعب البادية على وجهك ؟"
كانت ريم كمن حبس انفاسه التي تخنق صدره طويلا حتى وجدت
منفذا للانفجار .. لكنها رغم ذلك كانت تعبر عن وجعها بصمت بدموع لؤلؤية تنهمر
كشلال من عينيها التي اضناها السهر وتعب السنين ..
احتضنتها مجددا .. ثم حملت عنها صندوق علب البسكويت
وامسكت يدها وسرت بها .. ركبنا السيارة وريم كانت على ذات الحال تبكي بصمت بتنهدات
رقيقة .. كان عليَّ ان اتركها في حضرة وجعها لتخرجه كاملا قبل ان يخنق ما تبقى من
روحها البريئة ..
اتجهت الى احد المطاعم الهادئة .. كان لابد ان اعرف قصة
ريم كاملة .. جزء مني شعر اني صرت مسؤولة ومنذ تلك اللحظة عن تقديم يد العون لها
..
جلست ريم على الطاولة بصمت عدة دقائق وقبل ان ابادر باي
سؤال انطلقت بالحديث ..
"اكيد انك يا ست هيام تتسائلين بشدة الان عن سبب
حالي .. عن قصتي وما يكفنها من اسرار .. ساجيبك قبل اي سؤال ستطرحينه عليَّ .. لا
احد يشعر بأحد .. ولا احد قادر على مساعدتي .. لكن سارويها لك وهذا اقل ما استطيع
تقديمه بعد ان غمرتني بلطفك ، محبتك وحسن ضيافتك "
تركتها تكمل
حديثها دون مقاطعة وانا ابتسم لها بهدوء واومأ براسي اني لازلت اود سماع
المزيد ..
"قصتي يا ست هيام ابتدأت منذ اطلقت صرختي الاولى في
هذه الحياة بعد ان غادرت والدتي الدنيا وهي تلدني ، تركتني في كنف اليتم الذي لا
يرحم ، والدي غادرايضا بعد وفاة والدتي بأشهر عدة ، هاجر الى احدى الدول باحثا عن
عمل ولم اعرف عنه شيء منذ ذلك الحين ، شاطرت ايامي مع عمي وزوجته واولادهم في دارهم
لكنهما لم يرحماني ايضا وزادوا يتمي يتما .. سوى احدى بناته التي كانت تغدق عليَّ
العطف والاهتمام لكنها غادرت الدنيا ايضا فقد كانت قد ولدت للاسف بقلب ضعيف وعانت
سنين طوال .. كأن الكون كله كان متأمرا ضدي .. ليسرق اي منفذ للفرح ، لم استطع
اكمال تعليمي حتى الابتدائي منه فقد كنت خادمة دار عمي النجيبة لازال صدى كلمات
زوجته يملأ اذناي "اشتغلي هو هذا حق لكمتج " .. كنت اعلم انه ليس لي مفر
من وضعي ذاك سوى بزيجة جيدة ترحمني من بؤسي لكن لم اضع بالحسبان ان الدنيا ستستمر
بجلدي بسياط مؤامراتها ، فقد قرر عمي ان يزوجني احد اولاده الذي اقل ما ممكن ان
يُقال عنه انه بمصطلحنا العامي " بايع مخلص " وقد كان الجميع يعرف ان اي
عائلة محترمة لن تقبل به كزوج لاحدى بناتها ، كان هذا نصيبي الذي ليس لي منه مفر!
ان اتزوج شخصا فاقدا لاي اخلاق سوى الانانية والتمرد والتهجم والاتكالية ..
سرت وانا البس الابيض كان تشييعا من نوع اخر .. تشييع
لاخر ما تبقى لي من امل في هذه الحياة .. أُزف نحو الموت الابدي المستمر .. فكيف
سأعاشر هذا المرار اكثر .. كانت كل معالم الحياة تموت فيي شيئا فشيئا .. وكما
توقعت فعلا فقد كنت تلك الجارية التي احضرتها له والدته .. "على كد الخدمة
والفراش"
واكيد اضافة لذلك الضرب والاهانة واخرها كان " طلعي
جيبيلي فلوس!" كنت حاملا انذاك بالشهر الثالث .. فاضطررت عندها للعمل ببيع
المناديل الورقية كانت تلك نصيحة احدى جاراتنا التي كانت تحاول التخفيف عني ..
وهذا كان كل ما استطاعتها فببيئة متقعة الفقر كالتي اسكن فيها اكثر ما كان
باستطاتنا تقديمه لبعضنا البعض هو الكلمة الطيبة .. كان كل ما اجنيه من ذلك العمل
البسيط ياخذه مني كاملا كل ليلة لم يكن باستطاعتي ادخار اي شيء سوى بضع الاف بسيطة
كنت اودعها لدى جارتي وكنت اقول لها دائما خليها " ليوم عوزة"
استمرت حياتي بهذا الذل حتى احدى الليالي المشؤومة عندما
سقطت وخارت قواي من شدة التعب في الشارع فاخذني احد المارة جزاه الله خيرا الى
البيت ولكن! حصل ما لم يكن في الحسبان ، فزوجي المغوار ادعى ان هذا الشخص عشيقي
واني قمت باحضاره للمنزل في غيابه .. ممكن انها كانت حجة منه لا اكثر .. ضربني
ضربا مبرحا ثم رمى عليّ يمين الطلاق وركلني الى خارج الدار دون رحمة! ذهب ليحضر
مسدسه! كان الموت على بعد خطوات مني لم يكن لدي خيار اخر سوى الهرب .. لانه كان
يريد ان يجعلها قضية غسل عار وبالطبع فالمجتمع وقضاؤه يسانده يا سيدتي .. لذا
اختفت ريم من الشارع الذي كنت تسيرين به يوميا ولذا ولدت ريم جديدة لكنها اكثر
بؤسا هي فقط هذه الصورة التي ترينها الان انا .. صدقيني ليس لدي اي شيء اخسره وليس
مهما اي مما حدث .. عيناي لازالت هناك تحدقان باحمد الصغير وهو يبكي.. نعم سُرق مني
طفلي وهذا اكثر ما يكسرني الان .. "
كانت ريم تتحدث وانا ابكي مع كل جملة .. كم هو كارثي ما
تحملته تلك المسكينة رغم صغر سنها ..
احتضنتها بشدة وانا اهمس لها سأكون لك أما .. اختا وصديقة .. وسنُعيد احمد ..
ابتسمت ريم .. ابتسمت بقلب ملؤه الامل .. بأن هنالك
دائما منفذ للسعادة .. مهما كان بسيطا ...
روعة ..... عاشت ايدك
ردحذفاحسنتم وجزاكم الله كل خير على مساعدة هذه اليتيمة المسكينة
ردحذفقصة مؤثرة
ردحذفالله يرحمك اصيل خالد
ردحذفكتاباتك مؤثرة