newsfeed

سكة القطار

حسنين العاكول

سكة القطار


 حسنين العاكول


القطار عادل لانه يمر بكل المناطق على حد سواء ، يمر بالمناطق الغنية والمناطق الفقيرة ، يمر بالمدن والارياف ، ينقل كافة الشرائح من المسافرين, صحيح ان هناك فرق بين الدرجات فهناك الدرجة الراقية وهناك السياحية وهناك الاقتصادية لكنه بكل الاحوال عادل لانه يوصل جميع الركاب على اختلافهم بنفس الوقت وكما انه يأخذ أحباب فانه يأتي بأحباب .
كان هذا ما يدور بخلد (واصل) الرجل الذي ولد وترعرع وشب في بيتهم الفقير قرب سكة القطار كثيرا ما كان (واصل) واصدقائه بطفولتهم يقضون اغلب اوقات لعبهم قرب سكة القطار وفوقها , ألعابهم كانت مبتكرة وجهنمية وكانت سكة القطار العنصر الاساس في العابهم ,كل اطفال المنطقة بحد السواء يلعبون على سكة القطار صبيانهم وبناتهم , اعمارهم التي لا تتجاوز سنين الطفولة متفاوته ، (واصل) كان محبوبا من جميع الاطفال لانه كان دوما يبتكر الالعاب لهم ودائما ما كان يفسرها بتفسير غريب حتى ان بعض اقرانه لا يستوعبون تفسيراته الغريبة إلا بعض الاطفال الذين كانوا اما اكبر منه سنا واما خيالهم اوسع من غيرهم, واكثر من كان منسجما مع (واصل) هي (سفر) صديقته التي تكبره بثلاث سنين حيث كان عمر (واصل) احد عشر سنة وكان عمر (سفر) اربعة عشر سنة, كانت بينهما مشاعر حب طفولية وكان دائما ما يرافقها وترافقه، تفهمه ويرعاها برغم انه اصغر منها بثلاثة سنين، من الالعاب التي كان الاطفال يلعبونها على سكة القطار وتعشق (سفر) تفسير (واصل) لتلك الالعاب هي انهم كانوا دائما ما يضعون الخردة وبعض قطع الخشب والاثاث على سكة القطار وقت مروره بمنطقتهم متخيلين ان القطار سيقف ويهبون عليه ليصعدوا فيه ويشاهدون ما بداخله من ناس وحاجيات وكان انتظارهم للاصطدام يشعل في داخلهم الرهبة والخوف بان القطار سيحيد ويخرج من مساره وينقلب نتيجة اصطدامه بكومة الخردة التي وضعوها على سكته لكنه كان دائما ما يمر بسلام و بخيبة أمل للأطفال ممزوجة بفرحة سلامة القطار مارا بدون ان يتأثر بكومة الخردة عندها تعرف (سفر) ان (واصل) سيبدأ برواية حكمه الطفولية لبقية الاطفال. 
- الم اقل لكم ان القطار اكبر همة وعزيمة من ان توقفه كومة خردة او مشاغبات صغار وانه لن يتوقف لانه لم يبلغ محطته او هدفه المقرر بان يتوقف عنده لان القطار يعرف ان له وقت بداية ونهاية لرحلته ويعلم هدفه وكذلك يعلم السرعة التي يسير بها على سكته المرسومة له لا يبطئ لمجرد عائق بسيط ولا يستعجل الوصول.
عندها تنتشي (سفر) لانها اصلا تفهم وتعي ما يقوله (واصل) حبيب الطفولة, ومن العابهم الاخرى التي كانوا كثيرا ما يلعبونها هي ان يضعوا قطعة نقود معدنية على السكة منتظرين القطار ان يدوسها بعجلاته، بداية الامر كانت محاولاتهم تبوء بالفشل لان القطعة النقدية كانت دائما ما تسقط من على السكة بسبب اهتزازها من وقع سير القطار عليها وحار الاطفال بطريقة لينجحوا بها في مرادهم فما كان من (سفر) الا ان ابتكرت لهم طريقة هي و(واصل) بانهم عندما يضعون القطعة النقدية يلصقونها بشريط لاصق على السكة حيث ان (واصل) كان يقول لهم.
- ان الاهتزاز يسقط الاشياء الصغيرة بمرور الاشياء الكبيرة لذا يجب على المرء ان يلصق نفسه على الطريق او السكة ان كان يريد الوصول الى غاية ما ، وفعلا نجح الاطفال بان يدوس القطار قطعهم المعدنية وصارت القطع مسطحة واعرض بكثير فأخذوها فرحين الى الاسواق ليشتروا بها ظانين ان قيمتها صارت اكثر لانها صارت اكبر من حجمها القديم لكن (واصل) كان يستهزء بهم وباحلامهم الساذجة لانه تعلم ان قيمة الشئ ليس بكبره ولا بحجمه بل ان قيمته في ذاته وجوهره الاصلي، اما لعبتهم الاكثر اثارة كانت عندما يمر القطار ويصطف الاطفال على جانبيه يرشقونه بالحجارة المرصوفة على سكة القطار ويهربون راكضين الى منازلهم فزعين و خائفين مدعين البراءة امام اهلهم مستغلين الفكرة القائلة بان الاطفال ملائكة ، إلا ان (واصل) كان كل ليلة يلعبون لعبتهم هذه يجلس مع (سفر) ويقول لها:
                - سنظل ملائكة حتى وان قمنا اليوم بعمل شيطاني وحطمنا زجاج نوافذ القطار وحتى ان اصبنا بعض المسافرين.
                - كانت (سفر) تنكر عليه قوله وتقول له يا لك من مبرر شيطاني لافعالك التي تلبسها لباس الملائكة.
                - انتي لا تفهمين الفكرة يا (سفر)، الاطفال في المناطق الفقيرة لا يمكن ان يكونوا ملائكة خالصين وغير مطالبين ان يكونوا ملائكة لكني اعرف ان كل طفل رشق نوافذ القطار بالحجارة اليوم هو الان يجلس خائفا من العقاب ويشعر بالذنب الذي اقترفه لذلك فانه سيبقى ملاك حتى وان تصرف تصرفات مؤذية ، الشياطين هم اولئك الذين يفعلون الاذى ويعلمون بانه اذى ولا يخافون العقاب ولا يخالج نفوسهم اي شعور بالذنب.
                 - ان ما تقوله مقنع يا عزيزي كما ان المسافرين حتى وان صابتهم حجارتنا باذى او سببنا لهم الالم والجروح فانهم لن يترجلوا من القطار لانهم يريدون الوصول الى محطتهم حتى وان عارضهم عارض كحجارتنا، المهم عندهم الوصول الى غايتهم.
ومرت الايام على هذا الحال بينهما ومشاعر الحب الطفولي الطاهرة النقية تلون ايامهم، الى ان قرر اهل (سفر) السفر الى مدينة اخرى فيها من فرص العيش اكثر من مدينتهم الفقيرة، كانت (سفر) حزينة لفراقها (واصل) وفي داخلها حزن اكبر من اي حزن لان فرحتها في ركوب القطار لن يشاركها معها (واصل)، العوائل الفقيرة كانت كثيرة الترحال بحثا عن عمل وكانت كثيرا ما تزوج بناتها بعمر صغير لكي يرفعوا عن كاهلهم حمل بنت من بناتهم.
في المدينة الجديدة زوج والد (سفر) ابنته قسرا لاحد الرجال الميسورين وما كان منها إلا ان ترضخ وتتقبل الامر بمرارة، الفقراء مغلوب على امرهم والاكثر غلبة هن فتياتهم، بعمر الخامسة عشر انجبت (سفر) بنتا واسمتها (رحيل) كانت ولادة الطفلة هي المنقذ والمنفذ الوحيد ل (سفر) لتشعر بسبب مقنع يدفعها للاستمرار بالحياة مستغلة يسر الحال الجديد مقررة ان تصنع من ابنتها الشخصية التي كانت تحلم بأن تكون هي عليها، عكفت على تربيتها وادخالها احسن المدارس وحرصت ان تنال ابنتها اعلى تعليم، لم تنسى (سفر) ايام طفولتها وكانت كثيرا ما تقص على ابنتها مغامراتها مع (واصل) وابتكاراته للالعاب وخياله الاكبر من سنه كما انها لم تنقطع من تتبع اخبار (واصل) والتحري عن وضعه الذي آل اليه وفاءا منها لحب الطفولة، (واصل) كان يستحق الوفاء لانه لم يرتبط بفتاة حتى بعد مضي هذه الاعوام الطويلة بعد ان بلغ اثنان وثلاثون عاما وما زال ساكنا بنفس المدينة الفقيرة قرب سكة القطار بالرغم من انه صار كاتبا يشار له بالبنان وصاحب الروايات الاكثر خيالا ومبيعا وقراء والعديد من المعجبين, حتى ان (سفر) و(رحيل) كانتا من المعجبات وقرأتا جميع اعماله، فكرت (سفر) في نفسها وحالها وحال ابنتها وفكرت بمبدأها الذي عاهدت نفسها عليه بانها ستجعل ابنتها تعيش ما كنت هي تحلم به وان تحقيق احلامها بتحقيق احلام ابنتها (رحيل) و دائما ما تمنت (سفر) ان ترى (رحيل) المدينة التي ترعرعت بها وكانت رغبة (رحيل) اكبر وشوقها اكثر لرؤية مدينة امها خصوصا وانها تعرف بانها مدينة الكاتب المشهور الذي تحب هي رواياته, (رحيل) كانت تدرس في كلية الاداب, كان مطلوب منها ان تقدم بحثا عن كاتب وروائي معين فلم تجد افضل من (واصل) فمنها ان ترى مدينة امها ومنها ان تتعرف ب (واصل) وانه سيوافق ان يكون هو موضوع البحث خصوصا بعد ان تاخذ رسالة من امها لتجعله يقبل مساعدتها, وافقت (سفر) على ان ترسل رسالة الى (واصل) توصيه فيها بمساعدة ابنتها (رحيل) خصوصا وانها تعرف بانه سيكون خير سند ومعين لها لما الفته وعرفته عن (واصل).
كان نص الرسالة قصير جدا لكنها تعرف بان هذه الكلمات كافية ولا داعي للاسهاب والاطالة :
"ارجوك اعتني بحاملة هذه الرسالة واعتبرها ...انا".
كان وقع كلمة "انا" على (واصل) جميل ومربك بنفس الوقت, اعتبرها؟ تسائل (واصل), بل انتِ هيَ ام هيَ انتِ؟ 
                - ما اسمك ايتها الفتاة؟ 
                - اسمي (رحيل).
                - عجيب! اسمك ووجهك يحملان نفس معاني كاتبة هذه السطور التي توصيني بك. 
                - نعم فانا ابنتها.
                - حسنا يا (رحيل) كيف لي ان اساعدك ؟
                - اولا اوعدني بانك لن تمل من طلباتي الكثيرة وان تعطني من وقتك الثمين ,  فانا اريد اولا ان ارى مدينة امي بطفولتها واذهب الى جميع الاماكن التي كانت ترتادها وبعد ان استطلع المدينة نبدأ العمل الجاد واكتب بحثي عنك.
                - تكتبين بحثك عني انا, يبدو ان امك ارسلتك لتحققين معي (قالها ممازحا واكمل) حسنا دعينا من العمل وهيا بنا نتسكع في دروب المدينة فان لي زمان طويل لم اتسكع.
في الايام التالية لم تفارق (رحيل) (واصل) الا ليلا عندما كان يوصلها الى الفندق ,كانت معجبة به وبتواضعه مع ابناء مدينته وهو ذلك الكاتب المشهور يلفه المعجبون والمعجبات اينما ذهب حتى انها كانت تشعر في بعض الاحيان بالغرور لانها كانت تماشيه ويماشيها ويوليها اهتمام منقطع النظير, اخذها الى كل الاماكن التي ارتادتها امها, المدرسة الفقيرة بشبابيكها المكسرة, سكة القطار والالعاب الصبيانية التي مازالت مستمرة الى الان حتى انهما شاركا الاطفال باحدى لعبهم على سكة القطار بان يتسابق اثنان كل واحد على قضيب السكة متوازنا واحدا محاذيا للأخر وأيهما يصل أولا إلى نقطة معينة, عندما تسابق (واصل) و(رحيل) كانت الغلبة ل(واصل) لانه متمرس على هكذا العاب بينما ضلت (رحيل) تمشي بضع خطوات وتسقط مترنحة من على قضيب السكة مما دفع (واصل) ان يعود محاذيا لها وممسكا بيدها ليساعدها وما كان من تلامس يديهما الا ان سرت فيهما رعشة جميلة وعنيفة وكأن قطارا طويلا على طول السنين العشرين الماضية يمر بهما ناقلا اياهما الى عالم من المحطات الملونة والجميلة, دام الحال بينهما و اواصر الاستلطاف تشد عراها وتصبح اوثق من ذي قبل الى ان اتمت (رحيل) بحثها وعادت الى مدينتها واعدة (واصل) بالعودة مجددا.
في مدينتها لم تترك لحظة واحدة من سفرتها الا وقصتها على امها بالتفصيل الممتع والجميل, (سفر) تعرف مدينتها جيدا, انها ليست من المدن التي ليعجب المرء لرؤيتها او ليحبها الى هذا الحد الذي تتحدث عنه ابنتها ولأن للساكنين في المدن تاثيرهم على انطباعات الزائرين لها, حينها ادركت ان ابنتها تود (واصل ) وتحبه لذا قررت ان تتركها لتقرر هي مصيرها منفذة وعدها لنفسها بان تحقيق احلامها هو عندما تتحقق احلام ابنتها وما تريده , متغاضية عن فارق السن حيث كان عمره اثنان وثلاثون وعمر ابنتها عشرون سنة لانها تعرف ان من عاش هذه الفترة وفيا لذكرى حب طفولي فانه سيكون وفيا اكيد لحب ناضج.
توالت زيارت (رحيل) ل(واصل) كثيرا وصار (واصل) يستهوي مرور القطار بعد ان كان يحزن لمروره بعد سفر (سفر) عنه, لكن الامر مختلف هذه المرة و قرر ان يطلق العنان لنفسه و لمشاعره متناسيا ما كان من امره الذي مضى, فقد وجد ب(رحيل) ما كان قد فقده منذ سنين خلت حتى انه لم يشعر بمرور القطار فوق السكة مذ ان سافرت (سفر) والان عاد القطار ليمر بنغم سير الحديد على الحديد وكما انه اخذ احباب قبل سنين، عاد باحباب من جديد, والتقى الوصل بالرحيل, وانطوت في سفرها سفر .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق