امرأة في الظل::رحيل السنونو 2

أصيل خالد العزي

امرأة في الظل

رحيل السنونو

الجزء الثاني

جاءت وجلست بقربي ، فرشت شالها ثم بعثرت قطع الخرز عليه، صمتت برهة ثم أبتسمت ابتسامة خافتة وهي تحدق في وجهي ، وقالت:

·       " انها مرسومة في عينيك "

- " ماذا تقصدين ؟!"

·       " انا اقرأ ما هو مكتوب ، اوليس هذا ما جئت الي بسببه؟ "

تلعثمث لدقائق وانا احاول استرجاع رباطة جأشي .. لأعيد عليها ذات السؤال " ماذا تقصدين؟ "

-" يا عزيزي انا العرافة ، ومن الطبيعي اني سأقول لك شيئا يتعلق بالمستقبل .. هنالك امر ما جعلك تدق باب العرافات ، انها مرسومة في عينيك .. صوتك هو صدى صوتها وهي تتملك روحك ، تتملكها بشدة ، لكنك تعاني ، الحب والعذاب صديقان ازليان يا ولدي ، من يركب البحر عليه ان لا يخاف مده الجارف ، اعطني كفك ، خطوطه ستخبرنا ببقية الحكاية ، لا تخف "

- بالطبع لم اكن خائفاً ولم يكن هذا سبب مجيئي ، لكنها قالت شيئاً في نفسي ، كيف لها ان تعرف ما اعانيه مع سحر زميلتي التي احب بجنون لكنها ترفض حتى ان تسمح لي بمحادثتها عن قرب ، وكيف لها ان تعلم اني اعاني منذ سنتين بلا جدوى ، ليس مهماً .. اردت ان استمع لها اكثر فتركتها تكمل دون مقاطعة ..

"اسمعني يا ولدي .. يتقاطع خط القلب مع خط المصير في كفك كما ان خط الارتباط متصل بخط القلب .. وهذا يعني انك ستحصل على محبوبتك .. عليك فقط المحاولة .. لذا بادر ولا تخف .. العمر اقصر من ان تقامر به .. وحده الحب يشفي الجروح.."

كنت احدق فيها بهدوء .. سكتت ليلى وهي تنظر اليًّ باستغراب ثم قالت " مالك يا ولدي؟ هل هنالك ما ازعجك؟"

-        "الا تذكريني يا ست ليلى .. انا سلام .. ابن الدكتور ..."

وقبل ان اكمل جملتي  ...

انتفضتْ .. " سلام ايها الشقي .. كيف حالك وما الذي اعادك الينا .. لقد سالت عنك كثيرا .. قالوا انكم قد رحلتم الى العاصمة بغداد بسبب عمل والدك "

تحادثنا طويلا .. اخبرتها بكل ما دار خلال السنين الماضية .. كان يبدو انها سعيدة بسؤالي عنها واني لازلت اتذكرها بعد كل هذه المدة الطويلة ..

لا اعلم كيف سالتها هذا السؤال مباشرة وبدون اي مقدمات ..

" ست ليلى .. ما هي قصتك وما الذي قدم بك الى حينا ، كان جميع سكان الحي يسألون هذا السؤال بين بعضهم البعض .. رغم اني لا اتصور ان احدا قد سالك هذا السؤال مباشرة .."

لم اكن اتوقع ان تجيب ليلى هذا السؤال ، لكنها ادارت رأسها جانبا ، وكأنها تغادر في رحلة الى زمن اخر ، الى عالم يبدو انها قد اغلقته منذ ان وطأت قدميها هذا الحي النائي ..  ثم بدأت بسرد الحكاية ..

" ان ايامي صارت معدودة في هذه الدنيا ولا يضير ان افتح لك جعبة الماضي واخبرك بسري الاكبر ..

الذي حولني الى شخص مجهول الهوية كما يراني سكان الحي  ، قصتي تبدأ منذ اربعون سنة ونيف

كنت انذاك ابلغ من العمر ثمانية عشر سنة ، عندما قابلت حكمت لاول مرة وانا ارعى الاغنام بالقرب من قصرهم على الجانب المقابل للنهر ، حكمت الذي كان ابن احد وجهاء المنطقة انذاك ، شاب مثقف وسيم يدرس الحقوق ، كان فارس احلام اي فتاة من مستواه الاجتماعي فكيف ببنت بسيطة مثلي ؟ .. كان ترددي كثيرا هناك لم يكن يفصل بيننا سوى ذلك النهر ، يوم فأخر والصيف يحمل ظلاله حيث كنت اجلس تحت اشجار النخيل وارقبه بصمت ، يمازح المزارعين ويلاعب الخراف وينشر دفء اطلالته في كل مكان ، لم يكن لدي اي امل ان احاول حتى ان اتقرب منه او ان يشعر باحساسي الوليد كنت اقول دائما ان شخصا بمستواه لن ينظر الى ريفية مثلي لم تكمل سوى تعليمها الابتدائي ، غالبا سيختار فتاة من محيطه او طالبة معه في الجامعة ، انتهى الصيف وغادر حكمت الى جامعته وبهت مع غيابه لون حياتي الذي كان يزينه بمجرد وجوده على الضفة الاخرى من النهر ، كنت اتقبل الواقع على مضض واعيش حياتي كما هي ، اكيد ستتساءل لما لم اتزوج فاغلب نساء المناطق الريفية يتزوجن بهذا العمر واقل بكثير ايضا ، هذا لأني كنت اتولى رعاية ثلاثة من اخوتي بعد وفاة والدتي عند ولادتها بأخي الاصغر ، كنت الاخت والام في الان ذاته والمسؤولة تماما عن شؤون البيت بعد ان تزوج والدي وكان هذا ايضا احد اسباب بؤسي فقد كنت مضطرة لتحمل اساءاتها المستمرة ومعاملتها المؤذية ، كان حكمت الشباك المطل على العالم الاخر حيث بامكاني ان احلم فقط واجد لنفسي جزءا من السعادة والفرح المؤقتين ، لكنه كان يغادر الى جامعته فتغادر معه كل اسباب الراحة ، سبعة اشهر لا بل اكثر مرت ثقيلة مؤرقة كحملٍ كبير ، وذات يوم شتائي مشمس ، وانا عائدة ادراجي الى البيت ، لمحته يسير باتجاهي ، امامي ، يقترب شيئا فشيئا ومع كل خطوة كان قلبي ينبض بشدة ، عندما كاد يصل قربي اشحت بنظري للأسفل ، فلا فتاة في قريتنا تتجرأ على رفع عينينها في عيني رجل فكيف بي وكلي يهواه ..

لكن حصل ما لم يكن في الحسبان ، بمجرد وصوله قربي ، حادثني مخاطبا اياي :

"يا انسة هل لي من وقتك بدقيقة ؟!"

تلعثمت حتى لم اعد اعرف هل اجيبه ام اظل صامتة كجبل من شدة خجلي لكنها كانت الفرصة الوحيدة لاخاطبه ولو لمرة فأجبته ..

" نعم يا استاذ حكمت تفضل؟"

-        "جميل انك تعرفين اسمي يا ...؟؟"

·       "ليلى اسمي ليلى ..."

-        "عاشت الاسامي يا ليلى ، اسف لتحدثي اليكِ بدون سابق معرفة ، لكني ارقبك دائما عبر النهر ، تجلسين تحت الشمس دون ما يقي وجهك من اشعتها الحارقة .. لكِ بشرة جميلة حافظي عليها وكبداية احببت ان اهديك هذه القبعة البسيطة، اشتريتها خصيصا لكِ ، ارجو ان تُعجبك .."

لم اعرف ما الذي عليّ فعله ، فلست ممن يقبلن الهدايا من احد بالاحرى لم يحصل ان اهداني احد شيئا في حياتي سوى ذلك الحلق الصغير الذي اشترته لي امي عندما كان عمري عشر سنوات ، لكنه حكمت ! كيف سأرد هديته وانا متشوقه للمسها بعد ان لامستها يديه ، لكن لم يكن لدي حيلة فبكل الاحوال ستكثر الاقاويل وسيتساءل الجميع من اين لي بهذه القبعة وسيكثر الحديث وقد اخسر حتى رؤياه .. فأجبته  ..

·       "اعتذر يا استاذ حكمت فانا لا اقبل الهدايا من الغرباء .. لكني ممتنة جدا لانك فكرت فيّ وبصحتي فلم يسبق ان فكر احد بهذا يوما "

-        "اعتذر يا ليلى فليس لدي قصد سيء باعطائك هذه الهدية ، كنت اتمنى ان تقبليها لكن لا ضير ، ساحتفظ لكِ بها قد تقبلينها يوما ما ، اراكِ عبر النهر .. كوني بخير دائما "

كانت الكثير من المشاعر تختلط في نفسي لكن شعور السعادة الغامر كان يتملكني .. فعلى الاقل حكمت يراني ولست مجرد دمية تتحرك على ضفة النهر ترعى الخراف وتهتم بزراعة الارض ..

مرت الايام جميلة ، شهور كثيرة يغادر فيعود .. وعينانا ترقبان بعضهما البعض بصمتٍ وابتسامة خجولة نرسلها عبر اثير النهر.. ذلك الصمت الذي لم يطيقه هو .. ولم اكن اتوقع ان يُحب حكمت ليلى البسيطة او ان يهديني القدر .. حبه ووجع رحيله ايضا ..

يتبع