newsfeed

أثر حضارة ما بين النهرين على العالم – الأكيتو مثالا

كلكامش نبيل
مواليد بغداد 1988
خريج كلية طب القصر العيني - جامعة القاهرة عام 2013، مدير صفحة
Mesopotamia
وظهرت له مقال على الحوار المتمدّن، ومقالات
عن التعليم العالي في الفنار للإعلام وبعض التقارير الإخبارية في صحيفة
USA today وصحف أميركية وعراقية أخرى. مقيم في إسطنبول

أثر حضارة ما بين النهرين على العالم – الأكيتو مثالا



لقد قدّم السومريّون للعالم بذور كلّ شيء متقدّم نتمتّع به حتّى يومنا هذا، وليس النظام الستّيني – الذي تولّد منه حساب الزمن وأسس الساعة الحديثة – إلاّ أحد تلك الهدايا السومريّة للعالم. فقد إمتلك السومريّون تقويما متقدّما بعد أن قسّموا أشهر السنة وولّدوا فكرة الإسبوع واليوم المؤلّف من 12 ساعة مضاعفة – إذ كانت الساعة السومريّة ضعف ساعتنا الحاليّة، ولكنّها تعتمد النظام الستّيني كذلك. ويبرز هذا إدراك أجدادنا القدماء لأهميّة الزمن وتقديرهم له.
كان التقويم في بلاد ما بين النهرين قمريّا، ولكنّه يحافظ على ثبات المواسم وتكرارها في ذات الفصل – عكس التقاويم القمريّة الأخرى – إذا قام علماء الفلك البابليّون بإضافة شهر إضافي يدعى آذار الثاني أو النسيء – ثالث عشر – كل فترة، ليتمّ تصحيح الفرق بين التقويم الشمسي والقمري، وبالتالي تأتي الأعياد في ذات الفصل ويتمّ ضبط مواسم الزراعة والحصاد، وهذا التقويم كوّن بذرة التقويم العبراني المستعمل إلى يومنا هذا.
لكون المجتمع السومري مجتمعا زراعيّا فقد كان الربيع تعبيرا عن بداية الحياة وإنتصارها على الموت، ولهذا كان اليوم الأوّل من شهر نيسان هو بداية رأس السنة، وقد أسموا ذلك بإسم أكيتو – الذي يعني الشعير – حيث يرتبط الموسم بحصاد الشعير. ويعتقد أنّ أغلب شعوب العالم القديم كانت تحتفي برأس السنة مع قدوم الربيع، ولا يزال الأول من نيسان هو رأس السنة الدينيّة اليهودية – السنة غير الدينيّة تبدأ في شهر أيلول أو تشرين الأول – وكانت سائر شعوب المشرق وأوروبا تحتفي برأس السنة مع قدوم الربيع، وليس عيد النوروز – 21 آذار – إلاّ إستمرارا لأعياد الربيع النهرينيّة ورأس السنة البابليّة الآشوريّة، وإنتقل ذلك للشعوب الآريّة كالفرس والأكراد والأفغان وغيرهم.
إنّ فكرة قدوم الربيع، وإنتصار الحياة على الموت، قد تكون بذرة عيد القيامة المسيحي والذي يصادف أيضا في شهري آذار-نيسان دائما، وله صلة بعيد شمّ النسيم في مصر الفرعونيّة الذي يأتي في شهري نيسان-أيّار في الغالب، وكذلك عيد الفصح اليهودي، وكلّ هذه الأعياد لها صلة بالإحتفاء بالحياة، وإنتصارها على الموت، أو الخلاص والنجاة من الأسر.
لا نعرف على وجه الدقّة متى بدأت إحتفالات سكّان ما بين النهرين برأس السنة، ولكنّها قديمة جدّا وربّما كانت في بدايتها موسما تمارس فيه شعيرة الزواج المقدّس بين الملك الكاهن والكاهنة العليا لمعبد إينانا، كتعبير عن إقتران تمّوز – دمّوزي – وإينانا، وقد دوّنت إحتفالات تفصيليّة عن ذلك في عهد سلالة أور الثالثة السومريّة – القرن 22-21 ق.م. – ولكنّها كانت تتمحور حول إله القمر ننار – إله مدينة أور الرئيسي. فيما بعد حلّ الإله مردوخ – كبير آلهة بابل وإله المدينة الحامي – محلّ الآلهة السومريّة، وأصبح هو محور الإحتفالات الفخمة التي أقيمت في بابل، والتي كانت تستمر طوال إثنا عشر يوما، تقرأ فيها نصوص دينيّة وطقسيّة وسحريّة، ويعرض تمثال الإله مردوخ في شارع الموكب، وتتلى نصوص قصّة الخليقة البابليّة "إينوما إليش = عندما في العلى" في اليوم الرابع من شهر نيسان.
إستمرّت تلك الإحتفالات في بلاد آشور أيضا، وكان الملوك الآشوريّون على بابل يحرصون على حضور تلك الإحتفالات والإمساك بيد الإله مردوخ من أجل إرضاء الشعب البابلي. ويعتقد أنّ آخر إحتفال أكيتو كبير أقيم في بابل كان عام 538 ق.م. في عهد الملك قمبيز بعد أن إحتلّ الفرس الأخمينيّون المدينة.
وبهذا الإستعراض الصغير ندرك إهتمام أجدادنا بالوقت والزمن وإدراكهم لأهميّة تحديده، وإحتفاءهم بالحياة وسعيهم لنشر البهجة والمسرّة، وكيف ساهموا في منح العالم أوّل رأس سنة في العالم وفكرة الإحتفاء بالعام الجديد، وكيف إنتقل ذلك التقويم إلى العبرانيّين وألهم قدوم الربيع شعوب فارس ومصر وغيرها للإحتفاء بذلك وديمومة تلك الإحتفالات بصورٍ أخرى لدى أتباع الأديان الإبراهيميّة.
في الأوّل من نيسان الحالي، إحتفى أبناء بابل وآشور بقدوم السنة 6765 وفقا للتقويم الآشوري والسنة 7315 وفق التقويم البابلي الكلداني، ولنا أن نفكّر في عمق حضارتنا والمهام الملقاة علينا – أمام أجدادنا والإنسانيّة جمعاء – في المحافظة عليها والعمل على ديمومتها ونشرها والإحتفاء بها. وأنا متأكّد بأنّنا لن نفرّط بهذا التراث العظيم ونتناساه أبدا، فكلّ أكيتو وكل شعب ما بين النهرين بخير وسلام ومحبّة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق