newsfeed

المنفى والملكوت للكاتب الفرنسي ألبير كامو

كلكامش نبيل
مواليد بغداد 1988
خريج كلية طب القصر العيني - جامعة القاهرة عام 2013، مدير صفحة
Mesopotamia
وظهرت له مقال على الحوار المتمدّن، ومقالات
عن التعليم العالي في الفنار للإعلام وبعض التقارير الإخبارية في صحيفة

USA today وصحف أميركية وعراقية أخرى. مقيم في إسطنبول

قراءة في المجموعة القصصيّة المنفى والملكوت للكاتب الفرنسي ألبير كامو

يصوّر الكاتب والفيلسوف الفرنسي الشهير – الجزائري المولد - الحائز على جائزة نوبل "ألبير كامو" في هذه القصص الستّة وبقوّة بالغة مواضيع مختلفة وبيئات متنوّعة وثقافات متباينة، تتلاقى غالبا في ذات المكان، ليعبّر عن الفهم المتباين للأشخاص لذات المواقف. القصص قويّة ومحكمة وتبرز براعة الكاتب في الوصف والسرد وخلق التفاصيل.
في القصّة القصيرة "المرأة الزانية" يناقش ألبير كامو العلاقات بين الفرنسيّين والجزائريّين أبان فترة الإنتداب الفرنسي للجزائر من خلال إستعراضه لزيارة رجل خرّيج قانون ويعمل في التجارة مع زوجته لبلدة نائية قرب واحة في جنوب الجزائر. القصّة القصيرة توضّح إنطباعات الفرنسيّين هناك عن العرب المرتدين للعباءات العربية في عموم الرواية، وفقرهم الشديد المتمثّل من خلال رثاثة الملابس ونحول أجسادهم التي لم تكن لتملأ المقاعد في السيّارة التي أقلّتهم للجنوب. إلاّ أنّه يصف كون أهل جنوب البلاد ، وعلى الرغم من فقرهم الشديد، يتمتّعون بإباء وكرامة لا متناهية، ويتّضح ذلك من مقارنة المرأة لأحد الشبّان المتدثّرين بالعباءة أيضا بجندي فرنسي كان يرافقهم في سيّارة النقل تلك. كما توضّح القصّة غضب الجزائريّين ايضا وإصرارهم على إثبات وجودهم من خلال تجاهل ذات الشاب للمرأة الفرنسية، بل وحقيبة بضائع زوجها ومحاولته المضي قدما في طريقه متجاهلا وجودها ممّا حدا بالرجل لإزاحة الحقيبة، وقد شعرت المرأة بأنّه تصرّف فظّ. كالعادة تبرز ظاهرة الغش في الدول الفقيرة، وكيف يقوم الرجل بالمساومة على السعر لأنّه يعتقد دائما بأنّهم يطلبون أضعاف السعر الحقيقي ليحصلوا في النهاية على ربع السعر. لكنّ القصّة تناقش الجانب الإنساني لتلك العائلة المحرومة من أطفال وتكاد تخلو حياتها من الحب، فتقضي جانين وقتها مفكّرة في رتابة زوجها، وبروده وعدم حبّه لها، وتعتقد بأنّ كلاّ منهما تزوّج من الآخر خوفا من الشيخوخة والموت وحيدا في نهاية المطاف، كان الخوف وليس الحب هو الدافع لذلك الزواج البارد. هي تبحث عن التحرّر من مخاوفها مهما كان الثمن. كانت تعتقد بأنّه طفلها الذي تفتقده – والذي لم يأتي أبدا إلى هذه الدنيا – ولهذا كانت تشعر بضرورة وجودها إلى جانبه، فكامو يفسّر الأمر في النهاية على أنّه شعور بالرضا يجتاحها لدى تفكيرها في أنّها مهمّة بالنسبة لشخص ما. فهي تبحث عن الإهتمام أيّا كان، وكانت تستغرب عدم إهتمام أولئك الرجال الملثّمين بالنظر لجسدها المثير، حتّى الجندي الفرنسي لم يبادلها الإبتسامة ولم يكترث لوجودها. في النهاية تخرج من الفندق البارد مساءا وسط عواء الكلاب في الواحة البعيدة، حيث تجتمع فيها اللذّة والبرد وتسند بطنها لسياج الفندق، وتقضي الليل وحيدة قبل أن تعود وزوجها لا يزال يغطّ في نوم عميق.
يصف الكاتب أيضا أجواء الصحراء وبرودتها وشدّة رياحها، وكيف أنّ مارسيل – الزوج – يعتقد بأنّ هؤلاء يقودون سيّارة لأوّل مرّة في حياتهم- عندما تتعطّل بسبب الرمال – ويبدأ في شتم البلاد وأجواءها. يوضّح الكاتب إنتصار الطبّاخين على الدين عندما يجلس الزوجان لتناول لحم الخنزير في الفندق، وهو يخبرها بأنّهم لا يتناولونه لأنّه يسبّب الأمراض وفقا لمعتقدهم، ولكنّه يضيف قائلا بأنّ طبخه جيّدا لا يؤدّي إلى أيّة مشاكل، ولا يوجد أفضل من الطهاة الفرنسيّين.  للكاتب لغة أدبيّة رائعة في وصف المشاعر والأشخاص والأماكن وقد حافظ المترجم عليها بشكل مميّز. هي قصّة قصيرة لكنّها ناقشت قضايا سياسيّة وإجتماعيّة ونفسيّة ودينية على صفحاتها المعدودة.


في قصّة "المارق" يحدّثنا بطل القصّة بشكل مفاجيء وهو يختبيء مقرّرا قتل أحدهم، قبل أن يعود بالزمن إلى الوراء ليقصّ لنا حكايته وكيف خسر لسانه، وكيف تراكم الحقد في داخله. يحدّثنا عن تحوّله من البروتستانتيّة للكاثوليكيّة وإيمانه برسالة السلام وضرورة تبشير الشعوب المتوحّشة وتعريفها بالرب الصالح. يصف البطل رحلته إلى مدينة الملح، في جنوب الجزائر، وشعوبها القاسية الوثنيّة التي تعبد صنما غريب الشكل، وما تعرّض له من تعذيب إنتهى بإستسلامه لهم وإيمانه التام بإله الشر، وتغيّرت كلّ مفاهيمه معتبرا أنّ مملكة الشر هي السائدة، وكل محاولات نشر الخير، فاشلة وغير واقعيّة وتعرقل حلول الشر وسيادته، بدأ يعتبر كل فكر وشكّ مجرّد تعطيل لما هو اساسي وطبيعي واكثر دواما ألا وهو الشرّ. في النهاية يصبح واحدا منهم ويقرّر قتل المبشّر القادم من فرنسا، فهو لا يريد أن تمحى ثقافتهم ووحشيّتهم، بل إنّه يتنبّأ بأنّ هذا الشر هو الذي سينتصر ويسود أوروبا أيضا يوما ما. في هذه القصّة المثيرة والمرعبة في وصفها للأوضاع والتعذيب إيحاءات بتوقّعات مرعبة للمستقبل، عن إندثار الحضارة وسيادة الوحشيّة وهو ما نلاحظه جليّا في يومنا هذا.

الرجال الصامتون

في هذه القصّة القصيرة ذات النهاية المفتوحة، نقرأ عن مخاوف رجل من الكهولة التي تتقدّم نحوه بسرعة وهو في الثلاثينيّات من عمره، وخشيته من فقدان عمله في صناعة البراميل بعد أن بدأت هذه الصناعة تنحسر، كما تناقش القصة ألم وغصّة العمّال وهم يعودون إلى العمل عقب إضراب فاشل، وغضبهم من رئيس عملهم – الذي كان فيما مضى جيّدا معهم ويسرف في إكرامهم إلاّ أنّه تصرّف بسوء معهم هذه المرّة – وتصوّر قرارهم في مقاطعته وعدم التحدّث إليه ولرئيس العمّال كتعبير عن غضبهم وشعورهم بمرار الهزيمة لأنّهم إستأنفوا العمل من دون تحقيق أهدافهم. القصة تصّور علاقة العمال برب العمل، ومعاناتهم في مهنة صعبة على وشك الإنقراض، وتصوّر ظروف العمل الصعبة أيضا. في النهاية يعبّر إيفيرز عن رغبته في الهرب مع أسرته بعيدا عن تلك المعاناة  - على أمل أن يجد حياة أفضل عبر البحار له ولأسرته – كما تصوّر القصّة تعاظم ألمه لأنّه لم يكلّم رئيس العمل وهو يعلم بأنّ إبنته مريضة وقد تواجه خطرا يتهدّد حياته.
البحر لا يضمّ في حناياه وعودا جديدة، مهما كانت الطريقة التي تشرق بها الشمس.

الضيف

يصف كامو في هذه القصّة العلاقة بين العرب والفرنسيين في الجزائر، وأوضاع الفرنسيّين هناك بصورة عامّة، من خلال إستعراضه لواقع العزلة التي يعيشها ناظر مدرسة فوق أحد التلال – تبعد 20 كم عن أقرب قرية – ويرتادها 20 طالب فحسب، وكيف ترتسم خارطة فرنسا على السبّورة. وسط الصحراء المثلجة، يبقى الرجل وحيدا حتّى يأتي إليه دركي فرنسي يجرّ عربيا بالحبل – متّهما بقتل أقاربه – في طريقه لتسليمه إلى الشرطة في القرية المجاورة. يرفض الناظر تسليمه ويرى في ذلك إنتقاصا من كرامته وشرفه – بأن يسلّم أحدهم للشرطة. يحذّر الدركي الناظر من أنّ ثورة ما على الأبواب وأنّ عليه أن يأخذ حذره. يقضي الناظر ليلته برفقة الرجل العربي، ويخشى أن يقوم بقتله ويتمنّى لو أنّه يهرب ليتخلّص من القيام بتلك المهمّة. في صباح اليوم التالي يصطحب الناظر العربي، ويتركه عند مفترق الطرق، جنوبا حيث البدو ممّن سيتحتضنونه، وشرقا نحو القرية حيث السجن والشرطة في إنتظاره. ساعة عن الشرطة ويوم كامل من السير في الصحراء نحو الحرية، يراقب الفرنسي من على بعد ما سيقوم به العربي، فيراه يتّجه نحو السجن. أعتقد أنّ في هذا الموقف بالذات إشارة لتفضيل العرب لكل ما هو يسير حتّى وإن كان في ذلك تفريطا بالحرية. في المدرسة يجد الرجل تهديدا على السبورة يتعهّده بالإنتقام لتسليمه رجل منهم. وفي تلك اللحظة يشعر الرجل بأنّ كل شيء حوله – في وطن ولادته – قد أصبح غريبا عنه الآن.

الفنّان يعمل

يناقش كامو في هذه القصّة الجميلة حياة فنّان قنوع بكل تفاصيلها، طفولته وإنفصال والديه، وحنو أصدقاءه عليه وذويهم بسبب ذلك، وصديقته التي حرصت على توفير كلّ إحتياجاته حتّى تزوّجها وأصبحت والدة أبناءه الثلاثة. كما تناقش قناعته وتعاقده مع أحد التجّار ليبيع أعماله مقابل راتب شهري زهيد، وقبوله كلّ إقتراح بتقليص الراتب بدون أدنى إعتراض.
تناقش القصّة عدم قدرة الفنّان على توفير الوقت الملائم لحياته الخاصّة وعمله والتنسيق بينهما. وتوضّح لنا ضريبة الشهرة وكيف ساهمت في تقليل إنتاجه، إذ أخذ منزله يعجّ بالحواريّين والضيوف والتلاميذ ممّن يراقبون أعماله، فغاب كلّ وقته الخاص، الذي كانت زوجته تبذل كلّ ما في وسعها لتوفير الهدوء اللازم له ليعمل – في شقّتهم الصغيرة. يعتقد الفنّان بأنّ كل أولئك الزبائن ممّن يضيعون وقته يمنحونه الحبّ، وأصبح يخشى أن يهرب منهم ويرفض تلبية دعوات الغداء والعشاء لديهم، لئلاّ يتّهم بالتكبّر والغرور. يحاول صديق طفولته حمايته، وتنبيهه بأنّهم لا يحبّونه بل يجرّونه لينزل معهم إلى مراتب الفشل التي غرقوا فيها، لكنّ الفنّان يوناس يرى بأنّ ذلك غير صحيح وبأنّهم يحيطونه بالمحبّة والإهتمام. يضحّي الفنّان بكل خصوصيّاته من أجل أن يبقى الناس حوله، فيؤثّر على عمله وحياته، ويبدأ مستواه بالهبوط، فينهال النقّاد على نقده بقسوة في مقالات تصف قرب نهايته. يجفّ نبع إلهامه في النهاية ويعجز عن العمل. فيعتزل فوق منصّة ينشأها من ألواح خشبيّة بنفسه، ويبقى مستلقيا هناك ليعمل ليل نهار في الظلام. يتوقّف الجميع عن زيارته بعد ذلك عدا صديق طفولته، الذي يكتشف أخيرا بأنّه يحبّه فيقدّم له شكره، ويتفاجأ صديقه بأنّه أدرك في النهاية بأنّه الوحيد الذي يهتمّ به حقّا لشخصه فقط ويحرص على مصلحته. بعد أيّام من العمل المتواصل يصاب الفنّان بالإعياء، ويفقد القدرة على الحركة، يقول الطبيب بأنّه سيشفى، لكنّ الأسرة والصديق يتفاجأون بأنّ يوناس لم يرسم شيئا أبدا، فقد كانت اللوحة بيضاء وعليها حروف صغيرة لكلمة "العزلة" أو "التضامن".
القصّة في مجملها تناقش صعوبة تنظيم الوقت للمبدعين والإرهاق النفسي والقلق الذي يسبّبه ذلك، بالإضافة إلى التأثير السلبي لأصدقاء الشهرة ممّن يتسبّبون في تقليص إنتاج الفرد وصعوبة إدراك الشخص لذلك في الوقت المناسب، كما تذكر أهميّة وجود الأسرة في حياة المبدع ليتفرّغ لعمله وكمّ الجهد الذي سيلقيه عليهم من أجل أن يتفرّغ لعمله. وفوق ذلك كلّه فإنّها تبرز عمق الصداقة الحقيقيّة والتي لا تزول بتغيّر الظروف وكيف أنّها تتعاظم كلّما ساءت ظروف أحد الصديقين لتبرهن عن صدقها وعمقها.

في "الحجر النامي" يصوّر كامو ببراعة التنوّع الجغرافي والطبيعي والعرقي والطبقي في البرازيل، مستعرضا ذلك من خلال وصفه لزيارة داراست "مهندس ري فرنسي" إلى تلك البلاد بهدف التحضيرات لبناء سدّ في منطقة غابات تقطنها عوائل من السود والخلاسيّين الفقراء، يصوّر الكاتب الصراع بين الخرافات والعقلانيّة في هذه الرواية بطريقة رائعة، فبعد أن نكتشف تمرّد المهندس على الدين وتركه له وإستغراب سكّان المنطقة من ذلك، نراه ينخرط معهم في إحتفال طقوسي ملؤه الرقص، فرآى إختلاف رؤية تلك الشعوب لذات الطقوس الدينيّة في أوروبا ولكن بروحيّة أخرى إذ كان الرقص – تماما كما في ثقافة أفريقيا الأصلية – بديلا عن القدّاس. يرى الطبّاخ الذي تعرّف على داراست بأنّه لا ينبغي لنبيل أن يبقى بلا كنيسة أو ديانة، وينخرط في تأدية نذر لأنّه نجا من عاصفة بحريّة كادت ستودي بحياته، فيقوم بحمل حجر كبير على رأسه حتّى شاطيء البحر، لكنّه ينهار وسط الحشد الصاخب قبل بلوغ غايته، فيندفع المهندس ليعود بالحجر على رأسه وسط صيحات الجماهير تشجّعه على بلوغ الكنيسة، لكنّه ينحرف عن مساره ويعود لمنزل الطبّاخ ويلقي الحجر في النار فيستحيل رمادا. تبدو النهاية غامضة إذ لا يمكن أن نفهم سبب قيامه بذلك، هل هي محاولة منه لإلغاء طقوسهم الدينيّة أيضا؟ كما يبدو تقبّلهم للموضوع وطلبهم منه أن يجلس معهم في الحلقة التي أقاموها حول رماد الحجر غريبا هو الآخر. القصّة تصوّر شكوك المهندس بصورة غير مباشرة ورفضه لثقافته الأصليّة وعجزه عن تبنّي ثقافة بديلة لأنّه لا يجيد الرقص، كما قال مجيبا لسؤالهم أن ينظمّ إليهم.

هناك تعليقان (2):

  1. قراءة رائعة جدا من شخص رائع اكيد وشوقتني لاقرء القصص

    ردحذف
  2. حقا رائع
    موضوع مذكرة التخرج اللتي اقوم بانجازها حاليا بعنوان _تجليات الخطاب الاستعماري في المنفى والموت لابير كامو_ وجدت صعوبة في دراسة هده الرواية
    وقد افادني هاذا الملخص شكرا

    ردحذف